سقوط ميشيل فوكو في تونس

15 ابريل 2021
+ الخط -

استضاف برنامج "هذا المساء" على القناة الفرنسية الخامسة (10مارس/ آذار 2021)، الكاتب الفرنسي/ الأميركي غي سورمان (77عاما)، لتقديم مؤلّفه "قاموسي من الهراء" (Dictionnaire du Bullshit)، الذي عرض فيه مسيرته الفكرية، وأهمّ الأحداث والشخصيات الشهيرة التي عايشها. وكان باعثا للدهشة والذهول أن يقول الكاتب إنّه فصّل في مصنّفه في الميول الغلمانية للمفكّر الفرنسي، ذائع الصيت، ميشيل فوكو (1926- 1984)، قائلا: "هذا الشخص فظيع.. ما ارتكبه من انتهاكات في حق أطفال تونسيين أمر شاهدته. كان غلمانيا (بيدوفيل)، وأنا نادم لأنّي لم أُدِنْ تلك الأفعال المشينة وقتئذ. لم تكن مسألة البلوغ مطروحة في ذهنه أصلا، كان ينتهك أطفالا من غير الجنس الأبيض. لم يكونوا فرنسيين.. إنّها أفعال قبيحة جدّا". وأكّد سورمان، في تقرير نشرته صحيفة تايمز البريطانية (28 مارس/ آذار 2021)، وأعدّه ماثيو كامبل، أن الفيلسوف فوكو اعتدى جنسيًا على أطفال خلال إقامته بتونس أواخر ستينيات القرن الماضي، ولم يكن ليتجرأ على فعل ذلك في فرنسا. وشدد المتحدث على أنّ تصرفات المفكر الشهير ذات بعد إمبريالي (إمبريالية بيضاء)، مُعربا عن ندمه لعدم إبلاغ الشرطة بتصرّفات فوكو في ذلك الوقت، أو شجبها في وسائل الإعلام. وأفاد بأنّه التقى فوكو في عطلة عيد الفصح عام 1969 في مدينة سيدي بوسعيد القريبة من العاصمة تونس، وكان في رفقته أصدقاء، بينهم ثلاثة صحافيين، كانوا على علم بالممارسات الشاذّة لفوكو وانتهاكه الحرمة الجسدية لأطفال تونسيين. لكنّهم آثروا الصمت، وتكتّموا على ذلك، لأنّ فوكو كان يُعتبر ملك الفلسفة، ويعدّ بمثابة الإله في فرنسا.

آثر كثيرون الصمت عن أفعال فوكو، وتكتّموا على ذلك، لأنّ فوكو كان يُعتبر ملك الفلسفة، ويعدّ بمثابة الإله في فرنسا

من الناحية الإبيستيمية، يعتبر فوكو من أعلام ما تعرف بالفلسفة الحداثية المفتوحة، وينتمي إلى تيّار قطع مع الفلسفة التقليدية، أعني فلسفة النبلاء والبورجوازية، والمثاليات الأفلاطونية. ونظّر فوكو لما تسمّى فلسفة الهامش ومساءلة الممنوعات (السجن، السلطة، الجنسانية، الأخلاق، الشذوذ الجنسي، الجنون...). ويعتبر أنّ السلطة ليست ممركزة في النظام السياسي فقط، بل هي مبثوثة في مجالات شتّى، فالسلطة يمكن أن تكون سيادية أو تأديبية أو حيوية.. وهي نسبيّة، وتجلّياتها عديدة، وهي غير مقصورة على الجانب السياسي. ووضع ميشيل فوكو نظرية أركيولوجيا المعرفة، وبيّن من خلالها أنّنا لا يجب أن نتعامل مع الأفكار والقيم باعتبارها مسلّمات نهائية. بل يجب أن نحفر في تاريخها، وسيرورتها، وصيرورتها، وخلفياتها وتداعياتها، ونقوم بتنزيلها في سياقها التاريخي المحدّد، وفضائها الإبيستيمي المخصوص، بغاية كشْف نسبيتها وزمنيتها.

وكان لتونس فضل كبير على ميشيل فوكو، فقد درّس في كلّية العلوم الاجتماعية والإنسانية في العاصمة (1965- 1969)، وسكن مدينة سيدي بوسعيد الجميلة. وكتب مؤلّفه "حفريات المعرفة" (1969)، في تونس. وقال إنّه لم يعش ربيع الثورة الثقافية في فرنسا (مايو/ أيار 1968)، لكنّه أقرّ بأنّه عايش قبْل ذلك تحرّكات الطلبة التونسيين السياسية والنقابية والثقافية ضدّ النظام البورقيبي الحاكم (مارس/ آذار1968)، واستلهم منها أفكارا كثيرة في مستوى علاقة المواطن بالسلطة. كما استوْحى كتابه "المراقبة والمعاقبة" (1975)، من متابعته نضالات حركة "آفاق" اليسارية التونسية، للتحرّر من هيمنة النظام الشمولي الحاكم في تونس، زمن الحبيب بورقيبة، الذي يُقال إنّه هو من استقدم فوكو للتدريس في الجامعة التونسية. ومكّنت تلك التجربة الأكاديمية الفيلسوف الفرنسي من الامتداد في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسّط، وأصبح له جمهور واسع في المنطقة العربية وشمال أفريقيا والدول الفرنكوفونية. كان لتونس فضل كبير على ميشيل فوكو، لكنّه كان قاسيا على أطفال من تونس، بل كان مجرما في حقّهم.

كانت شخصية فوكو تعاني مبكّرا من انفصام ناتج عن صراع داخله بين نزوعه للمثلية وتحجير المجتمع لتلك الميول

يقول غي سورمان، في شهادته لصحيفة التايمز: "كان فوكو يتحرّش بأطفال تونسيين جنسيًا ويعتدي عليهم. كان الأطفال الصغار يلاحقون فوكو ويقولون ماذا عني؟ خُذني .. كانوا في سن الثامنة والتاسعة والعاشرة، وكان يرمي الأموال لهم، ويقول سنلتقي في المكان المعروف عند الساعة العاشرة مساء"، والمقصود مقبرة المدينة. هذه الصورة التي ينقلها الشاهد مُرعبة حقّا، بل فظيعة جدّا، تكشف عن شخصيةٍ أخرى للفيلسوف البارع، غير سويّة، مسكوت عنها في معظم النصوص التي كُتبت عنه، فقد بان أنّ الرجل يتعمّد انتهاك الحرمة الجسدية للأطفال، ويستغلّ فقرهم وبراءتهم لتلبية نزواته المُقرفة، الشاذة. وهو لا يستضيفهم في بيته، بل ينتهك براءتهم في المقبرة وفي جُنح الظلام. لماذا اختار ذلك المكان الهامشي؟ هل لأنّه يريد أن يفعل تلك الأفعال الدنيئة بعيدا عن أنظار الناس؟ أم لأنّه يحتقر ضحاياه، ولا يريد استقدامهم إلى منزله تفاديا للشبهة؟ ولماذا اختار المقبرة بالذات؟ هل يريد أن يتحدّى الموت ومسألة المصير بعد الوفاة؟ ولماذا اختار الليل فضاء زمنيا لفعْله المقيت؟ هل لأنّه يتغطّى بالسواد هروبا من الضياء وكشف الحقيقة، أم لأنّه لا يريد النظر في وجوه ضحاياه؟ كشفت تلك الشهادة عن شخصيةٍ عصابية، موتورة، شاذّة للفيلسوف المشهور، وأخبرت باستهانته بالقيم الأخلاقية والقوانين الدولية المتعلّقة بتجريم الاعتداء على الأطفال، والممارسات الجنسية مع القصّر.

ويبدو أنّ فوكو تمادى في أفعاله المشينة تلك بحقّ أطفال تونسيين، لأنّه كان يتمتّع بحماية غير معلنة من الرئيس بورقيبة، ولأنّه كان يرى نفسه مواطنا فرنسيا، ورجلا أبيض، يواصل هيمنته على أطفال بلدٍ احتلّته فرنسا سابقا، ويعتبر نفسه فوق المحاسبة القانونية والملاحقة العقابية، لأنّ جنسيته فرنسية، ولأنّه بلغ النجومية في الفلسفة. يضاف إلى ذلك عدم وجود منظمات حقوقية وجمعيات مدنية تونسية فاعلة، تُعنى بشأن حقوق الطفل في تونس وقتها. فضلا عن عدم وجود وسائل إعلامية حرّة، وتواطؤ الصحافة الفرنسية وقتها مع ممارسات فوكو الشاذة. ساهم ذلك في إفلات الفيلسوف المأزوم من المساءلة والعقاب.

أدلّة معتبرة تفيد بأنّ ملك الفلسفة كان ينتهك براءة الأطفال، ويشرعن لذلك تلبية لنزواته

وحتّى لا يكون رصد مسألة بيدوفيلية فوكو حكما أحاديا صادرا عن جهة علم واحدة، أعني شهادة غي سورمان، حاولت أن أتقصّى الأمر على جهة التدقيق، فقمت بحفريات في سيرة ميشيل فوكو، عسى أن أعثر على ما يؤيّد ما وجّهه إليه سورمان من اتّهامات. وتبيّنت من خلال جهد أركيولوجي معتبر أنّ الرجل كان يعاني من اضطرابات نفسية وسلوكية مذ كان مراهقا، وأقدم، بحسب تقرير أعدّته مجلة "فلسفة"، على محاولة انتحار في الثانية والعشرين من عمره، وأنّ والده أخذه مُكرها لمقابلة جان ديلاي، وهو إخصّائي نفسي في مستشفى سانت آن بباريس. وبعد حصص المعايدة، أفاد الطبيب المباشر لحالة فوكو بأنّ "محنته ناتجة عن تمسّكه بمثليته الجنسية، وولعه بالسادية/ المازوشية، ورغبته في أن يظلّ سلوكه في منأى عن الرقابة الأخلاقية والاجتماعية". ومن ثمّة، كانت شخصية فوكو تعاني مبكّرا من انفصام ناتج عن صراع داخله بين نزوعه للمثلية وتحجير المجتمع لتلك الميول. وجاء في التقرير أنّه سافر في شبابه إلى السويد، وألمانيا، وبولونيا، ليعيش مغامراتٍ مثلية، وليتخفْف من الرقابة المشدّدة على ميوله الجنسية هذه في فرنسا. وفي السياق نفسه، تؤكد وثيقة مهمّة أخرى ميْل فوكو إلى ممارسة الجنس مع الأطفال، وهي عريضة وقّع عليها مثقفون فرنسيون، من بينهم جاك دريدا، ولويس ألتوسير، وسيمون دي بوفوار، وجيل دولوز، وفراسواز دولتو، وميشيل فوكو وغيرهم سنة 1977 وعنوانها "رسالة مفتوحة إلى لجنة القانون الجنائي لمراجعة بعض النصوص التي تحكم العلاقات بين البالغين والقُصّر"، وطالب فيها الموقعون بتخفيض سنّ البلوغ والتشريع لممارسة الجنس مع الأطفال الذين تكون أعمارهم في حدود 13 سنة. وورد في كتاب "شهوة ميشيل فوكو" (1993)، لجيمس ميلر، أنّ المفكّر المشهور كان مهتمّا بالمثلية والسادية، وكان أوّل شخصية عامّة في فرنسا اعترفت بأنّها مثلية، ومات متأثّرا بالإيدز. وورد في تقرير آخر أنّ ميشيل فوكو غادر تونس بعدما اشتكاه مراهق (18 سنة)، إلى وزارة الداخلية التونسية، واتهمه بالاعتداء عليه جنسيا. ومن ثمّة، فإنّ أدلّة معتبرة تفيد بأنّ ملك الفلسفة كان ينتهك براءة الأطفال، ويشرعن لذلك تلبية لنزواته.

من المهمّ أن يشتغل البحث الأكاديمي بمراجعة البنى الأساسية الناظمة لفكر فوكو، والبحث في وشائج الاتصال والانفصال بينها وبين شخصيته الجنسانية الموتورة، فمن غير البعيد أنّ الرجل بذل قدْرا معتبرا من جهوده النظرية للتأصيل لهويته الجنسانية الشاذّة في المنظومة المجتمعية، ولضرْب المنظومة القيمية السائدة، وكذا للتشريع لما يُعرف بمعضلة ممارسة الجنس مع القُصّر.

يصبح الطفل المنتهك جنسيا انعزاليا، انطوائيا، منكسرا، وقد يتحوّل إلى شخصية ثأرية شاذّة. كم من الأطفال/ الضحايا وقعوا في شرك فوكو؟ متى يتكلّم الشهود والضحايا؟ لماذا لم تبادر النيابة العمومية التونسية والمنظمات الحقوقية المحلّية والدولية بفتح بحث للتحقيق في أقوال سورمان وانتهاكات فوكو، خصوصا أنّها انتهاكات جسيمة، لا تسقط بالتقادم. .. أسئلة ما زالت الإجابة عنها عالقة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.