سرد "الحرب" بصيغة المضارع

05 ديسمبر 2022
+ الخط -

لم يقدّم الكاتب العُماني محمد اليحيائي، في روايته الجديدة "الحرب" مواضيع الذاكرة لقارئه مسحوبة من الحاضر ومنفصلة عنه، إنما في قلبه، وذلك عبر سارد متخيل يتمثل في شخصية سعيد قيصر، وهو موظف إعلامي، تعكس شخصيته المركّبة بين الثقافة والسياسة أحلاماً مبتورة، وهو يطمح إلى أن يصوّر فيلماً وثائقياً عن حرب ظفار (1965 – 1975)، يفشل في إقناع المؤسسة التي يعمل فيها برعايته، أسوة بفيلم وثائقي آخر أنجزه وحقّق نجاجاً وجوائز، عن حياة سالمة بنت السيد سعيد بن سلطان التي ولدت في زنجبار وانتقلت للعيش في ألمانيا.
توجد في الرواية كذلك شخصية كريستينا سعيد، وهي فتاة من أب عُماني وأم بولونية. تلتقي بسعيد قيصر في معهد أميركي للاستشراق، وهناك يتم التواصل بينهما في "زمن قصة قصير" لكن "زمن الخطاب" يتمدد عبر سياقات الرواية ذات الـ360 صفحة، وهي تكثف التاريخ الممتد حوالي قرن متقطع، تتحرك أحداثه بحرية، تقفز وتثب، مثل ضمائر تقديم العمل، حيث يتناوب، في وقت متقارب أحياناً، الضميران السرديان الأكثر شهرة: الغائب والمتكلم... وفي بحر سرد الرواية، تتقاطع كذلك مصائر شخصيات أخرى: خليل زاهر، عيسى صالح، سهيل محاد.
أخذ استلهام الحرب في الرواية العُمانية تشكلات عديدة، ولا أظنّه سيقف عند حد، طالما ثمّة تاريخ سياسي وحربي، وثمّة ما هو مسكوت عنه ومغيّب في هذا السياق، حيث يمكن أن نذكر عناوين من قبيل روايات: "الباغ" لبشرى خلفان، "ذاكرة الكورفيدا" للخطاب المزروعي، "الأحقافي الأخير" لمحمد الشحري، بالإضافة إلى روايات أحمد الزبيدي، وأخرى يتعذّر حصرها في مقال.
الروائي محمد اليحيائي قاص وإعلامي متمرّس عُمانياً وعربياً، يحمل شهادة الدكتوراه في التاريخ. بدت روايته هذه مختلفة في تعاملها مع التاريخ، مُصاغة بطريقة آنية وراهنة، فرغم أن سهم عنوانها يشير إلى الماضي القريب، إلا أن صيغتها المضارعة الآنية أعطتها لمحة جديدة وراهنية ومُعاشة. سنجد الجدّة كذلك في أجوائها التي تتأرجح بين البيروقراطية الراهنة والغربة، عبر شخصيات دفعت بها الأقدار (لحسن حظها كما يقول السارد) إلى أن يلجأ آباء بعضهم إلى العيش في المهجر، فتحوّل، بالتالي، الشغف المبتور للبطل سعيد قيصر من تصوير فيلم عن حرب ظفار إلى سرد سير هؤلاء العُمانيين المغتربين المقيمين في أميركا، والذين ما ينفكّ الحنين يداعب أخيلتهم عن بلدهم وتوقهم إلى رؤيته عصرياً متقدّماً. 
تسرد كريستينا، بالضميرين المتوازيين، حياتها مع والدها في بولندا، ثم انتقالهما إلى أميركا. ثم يمضي النص إلى فض ختم رسالة مذكّرات غزيرة لحياة والدها وتطور مسار حياته بين الثورة ومغانم السلطة. بعد ذلك يتناوب بقية شخوص الرواية في التعريف بأنفسهم، وكأننا أمام وثيقة مكتوبة ومصوّرة في آن. وأقول مصوّرة لأن الكاتب، من خلال وصفه الدقيق كل شيء، كأنما يحاول تصوير فيلم عن تلك المرحلة الغامضة من التاريخ العُماني، بتصوير فيلم آخر محايث، ولكن عبر الكلمات والحروف.
تقديم فترة ملحمية استمرّت عقوداً من حروب متقطعة بهذه الصيغة الآنية المضارعة يمكن اعتباره أحد التحدّيات الأسلوبية لهذه الرواية. وبذلك تصعب تجزئتها وتحجيمها على أنها عن الحرب فقط، رغم عنوانها المحدّد. وتكشف تفاصيل الرواية عن لعبة سردية، فهذه الحرب لم تكن في الرواية سوى خلفية مونولوغية لحياة شخوص وجدوا من يعترفون له، ولحياة بطل الرواية أيضاً سعيد قيصر، الذي استطاع السارد، من خلال اللعبة الزمنية، أن يربطه بحاضره، مستثمراً تجربته وقراءاته بما يقرّبه من المتخيّل الذاتي، وبالعين الناقدة التي لا تترك أي شيء يمرّ أمامها بدون تعليق "ما زلت أتساءل، يا ولدي، عن  أسباب الحقد الذي في نفوس البريطانيين على عُمان. استعمروا الهند وأقاموا فيها أجهزة الدولة، بنوا المدارس والمستشفيات وشقّوا الطرق، ومدّوا سكك حديد القطارات، وأسّسوا للحياة السياسية والبرلمانية، وكرّروا تجربتهم في العراق ومصر وفي جنوب اليمن، أما عُمان فأغلقوها وحرموها من أي بصيص نور".

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي