سامح شكري في مباراة ودّية مع تسيبي ليفني
ركّزت النسخة الستون من منتدى ميونخ للأمن على قضايا الصراع العسكري، سواء بشكل مباشر، كما الحرب في غزّة وأوكرانيا، أو غير مباشر كما موضوعات النزاعات وساحات المواجهة بين القوى الكبرى في أفريقيا وآسيا، وبهذه القضايا يعود المنتدى إلى سابق عهده، بالتركيز على قضايا عسكرية منذ نسخته الأولى.
وخلال ثلاثة أيام (16 – 18 فبراير/ شباط الجاري) فرضت الحرب على غزّة حضور الشرق الأوسط بدرجة أكبر، حيث يدرك المشاركون، خصوصا مجموعة السبع، تداعياتها أمنيا واقتصاديا، خصوصاً في ظل التخوّف من اتساع نطاقها وآثارها مستقبلا، وهو ما يتّضح من التقرير السابق على المؤتمر وأجندة أعماله، والذي خصّص الفصل الرابع لمنطقة الشرق الأوسط، وركّز على التقارب الإقليمي بين دول المنطقة، والعلاقات مع إسرائيل، وتناول الحرب على غزّة بوصفها ردّاً على "الهجمات الإرهابية" لحركة حماس، والتي تهدّد التعاون الهش الذي دعمته اتفاقيات التطبيع.
وبجانب التقرير، أوضح اهتمام الدول الكبرى بإيجاد حلولٍ لدولة الاحتلال، تحاول إقناعها بتسويةٍ مستقبلية مع الفلسطينيين، شرط عزل المقاومة الفلسطينية، وفي مقدّمتها "حماس". وفي ذلك تختلف الأطروحات الأوروبية في الوسائل والأبعاد، وإن يتضح، من مجمل الأطروحات الأوروبية والأميركية المتعلقة بالشرق الأوسط، أن إسرائيل ما زالت تمثل مشروعا استعماريا غربيا يجب الدفاع عنه.
يعلن خبراء ومسؤولون سابقون التصوّر نفسه، في جلسة تناولت أدوار النساء في المقاومة المدنية (للنظم التي لا تنسجم مع أميركا) اشتكت هيلاري كلينتون، من تضامن طلابها من دارسي العلاقات الدولية، مع الشعب الفلسطيني، وتعتبر الأمر مُحبطا، وترجعه إلى نقصٍ في المعرفة، حيث يكوّن الطلاب مواقفهم من وسائل التواصل الاجتماعي! لم تدَع وزيرة الخارجية الأميركية سابقا الفرصة لإظهار وتبرير انحيازها لإسرائيل، عبر تشويه المقاومة باتهامات العنف الجنسي، معتبرةً أنه استُخدم أداة للحرب ضد الإسرائيليين، ذلك ضمن صورة تقدّمها لنفسها نسويةً تكافح ضد التمييز والعنف ضد النساء، وتطالب بالمساواة بين الجنسين، لكنها تُسقط ذلك كله في ما يتعلق بالفلسطينيات، وما يواجهنه من واقع دام.
بينما في جلسة نقاش، تحدّث فيها وزير الخارجية المصري، سامح شكري، مع نظيره السعودي ووزيرة الخارجية البلجيكية، عن منظومة الأمن والسلم، هاجمت وزيرة الخارجية الإسرائيلية سابقاً، تسيبي ليفني، حركة حماس، لأنها لا تعترف بإسرائيل، وتعرقل أي فرصةٍ للسلام، كما تأسفت على مشاركتها في الانتخابات التشريعية 2006. تفكّر ليفني كما كل مستعمر، يريد الهيمنة على الأرض، ومصائر من فيها، وتحدّد مستقبلهم، وتنظر إلى المقاومين الفلسطينيين متوحّشين، في مرتبة أدنى، لا تحقّ لهم لعبة الانتخابات، التي يجب أن تحدّد قواعد تستبعدهم، وتحدّد أيضا المشاركين المسموح لهم التنافس، كما النظم السلطوية لتفرز من سينجح ويتأهل للتعامل مع تل أبيب. تحمل ليفنى رسالة تمثل المكون الدعائي لإسرائيل، في هذه المرحلة، أن "حماس" جزء من المشكلة ويجب إبعادها لتنظر إسرائيل مستقبلا في تسوية مع الفلسطينيين، لأنها لن تعاود التفاوض في ظل وجود "حماس" في قطاع غزّة، ولن تتعامل معها بوصفها جماعة إرهابية. كرّرت ليفني الرسالة خلال مشاركتها في دائرة مستديرة عن مستقبل العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية.
ويوافق سامح شكري على منطق تسيبي ليفني ويدعمه، ويزيد عليه أيضا بالقول إن "حماس" تمارس العنف (لم يقل الإرهاب)، وأيضا ليست ضمن "الإجماع الوطني"، لكنه أضاف وكأنه يُحرز هدفا في مرمى ليفنى، يجب مساءلة من مكن حماس في غزة وموّلها من أجل تعزيز الانقسام الفلسطيني، في إشارة إلى دخول المساعدات والمنح إلى قطاع غزّة، وكأن الاحتلال يحتاج من يراجع له سياساته، وكأن خبراء تل أبيب يحتاجون النصح والإرشاد ومراجعة استراتيجيتهم للتعامل مع "حماس"!
وغير ذلك، في ما يخصّ المساعدات والمنح والتمويلات، ومجمل القضايا الاقتصادية، الأراضي الفلسطينية خاضعة لإرادة الاحتلال، وتنظمّها اتفاقية أوسلو الثانية (اتفاق باريس) الذي جعل كل نشاط وحركة مالية في الضفة الغربية وقطاع غزّة جزءاً من اقتصاد الاحتلال، بما في ذلك مرور المنح والتمويلات والمساعدات (كما في وضع معبر رفح أيضا). وعمليا يعيق سبل إقامة اقتصاد فلسطيني مستقل، ومنع الانتخابات أيضا في 2021 وغير ذلك من حقائق، تحدّث عنها رئيس وزراء فلسطين، محمد اشتية في المنتدى، معتبراً أيضاً أن الحرب ليست على "حماس"، وإنما على مجمل الشعب الفلسطيني.
ردّ سامح شكري على ليفنى، التي ترى نفسها ممثلة لإسرائيل، وإن ليست في منصب رسمي، لا يصبّ في صالح مصر
فعليا، يضرّ الانقسام القضية الفلسطينية، وسيستمرّ الضرر، لكن "حماس"، كما قول مسؤولين فلسطينيين وآخرين من مؤسّسات دولية، بينها الأمم المتحدة، جزء من الشعب الفلسطيني وفصيل سياسي، وليست منظمة إرهابية تمارس العنف أو خارج شعار الاصطفاف المزعوم الذي اعتادت النظم السلطوية استخدامه للتخوين والإقصاء ورمي مواطنيها في المعتقلات، وإن غزّة، بكل سكانها، أسرى تحت الحصار والقصف الوحشي للجيش الإسرائيلي. رغم ذلك، تبقى المشكلة، بالطبع، في المنظور الإسرائيلي الذي تعلنه ليفني، أن "حماس" هي المشكلة التي تعطّل مساعي إسرائيل نحو السلم، ويتفق معها وزير خارجية مصر التي كانت الوسيط في كل جولات التفاوض بين الاحتلال ومنظمة التحرير.
هنا لا يمكن، بأحكام مطلقة، جعل الانقسام سبب توقف مفاوضات السلام أو عدم تنفيذ اتفاقية أوسلو التي لم تنفذ إسرائيل بنودها قبل الانقسام بعشر سنوات، سواء فيما يتعلق بالقضايا الأمنية لحماية الاحتلال أو نهب موارد الفلسطينيين، وبدلا من تفكيك المستوطنات في الضفة الغربية، مضت إسرائيل في توسيعها وتضاعفت أعداد المستوطنين لتجاوز 726 ألفا، واستمرّت أعمال القمع الممنهج في مناطق السلطة، والتي تشهد اقتحامات واعتقالات وقتلا، وحصارا وتمييزا عنصريا.
لأسباب عدة، لم يكن رد وزير خارجية مصر يحرز هدفا في مرمى الاحتلال، وإن حاول أن يناور ليفني، التي تجيد ألاعيب الكلام من هجوم ودفاع ودعاية واستمالة، لكن الردّ شكّل طيفا مما يروجه الاحتلال وبلغته أيضا، "حماس" تمارس العنف الذي يشكل عائقا للسلام، لا يمكن التفاوض معها، لأنها خارج الإجماع الوطني الفلسطيني، لا تسوية مستقبلية إلا بتنحيتها أو إخضاعها. كما أن الرد على ليفني، التي ترى نفسها ممثلة لإسرائيل، وإن ليست في منصب رسمي، لا يصبّ في صالح مصر، ويخالف حقائق أن الاحتلال لا يسمع السلطة الفلسطينية ولن يسمعها طالما لا تمتلك هذه أوراق ضغط وقوة، لذا؛ تستمر سياسة الاستيطان وحملات الاعتقالات والتهجير، ويقف محمود عبّاس يستجدي العالم "احمونا يا عالم".
يحتاج الخطاب المصري الذي يطرح في المنتديات والتجمّعات الدولية أو اللقاءات الثنائية أن يكون مرتكزاً على رؤية استراتيجية
بجانب ذلك، ما قاله سامح شكري، المفترض أنه مغاير لموقف مصر رسميا، سواء المعلن أو حتى من ممارسات عملية، حيث تتواصل القاهرة مع كل الفصائل بما فيها حماس، وخلال ست سنوات مضت، تلتقيها وتنسّق معها، ارتباطاً بملفّات عدة، بينها الوساطة. وتحمل هذه التصريحات في هذا التوقيت ضغوطا لإرغام فصائل المقاومة على الإذعان لإسرائيل، ضمن فرض الهيمنة على المنطقة ككل، وليس المقاومة وحسب، إضافة إلى أن خسارة القاهرة أي فصيلٍ فلسطيني، مهما كان وزنه وحجم الاختلاف معه، تُعدّ خصماً من رصيدها مستقبلاً، لأن كل القوى الفلسطينية (في الضفة الغربية وغزّة وأراضي 1948) أقرب للقاهرة من تل أبيب التي لن يُحلّ الصراع معها أو يمكن الوصول بتسوية مقبولة للفلسطينيين بتبنّي مفردات الدعاية الإسرائيلية. كما أن استمرار الحرب يعنى توسّع هيمنة الاحتلال ونفوذه مستقبلاً. وحالياً، تتضرّر القاهرة منها، وتتحمّل تبعات إنسانية وسياسية وأمنية، يشير إليها بيان بعثة القاهرة في الأمم المتحدة، والخاص بجلسة مجلس الأمن (20 فبراير/ شباط) بشأن مقترح الجزائر وقف الحرب.
في النهاية، يحتاج الخطاب المصري الذي يطرح في المنتديات والتجمّعات الدولية أو اللقاءات الثنائية أن يكون مرتكزا على رؤية استراتيجية، بما يساهم في توحيده واتساقه، وينطلق من الحقائق، ويوصّف الأوضاع كما هي. ليست المقاومة عنفا، ولكنها حقٌّ مشروع ضد المحتل ضمن تقرير المصير، وأن إسرائيل لم تلتزم بمعاهدات سلام وتفاوض ممتدّ ومبادرات متكرّرة للتسوية، ومارست العدوان منذ تأسيسها، وتستمر في احتلال الأرض وتتوسّع في الاستيطان، وتمثل نظاماً للفصل العنصري. هذه حقائق يقولها أحيانا دبلوماسيون مصريون، منهم مندوب مصر في الأمم المتحدة، أسامة عبد الخالق، وأخيرا ضمن مرافعة ياسمين موسى أمام محكمة العدل الدولية، 21 فبراير/ شباط الجاري، حين طُلبت شهادة مصر بخصوص الآثار القانونية المترتبة على الممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلّة، واستطاعت فيها، وهي خبيرة قانونية، أن تقدّم شهادة وافية عن ممارسات الاحتلال، بلسان مصري فصيح، ينطق بالحق، ويرتكز على القانون الدولي، ومواثيق ومعاهدات أممية، ويتناول تاريخ الاحتلال من التهجير والاستيطان والتمييز العنصري، وصولاً، كما تقول المرافعة، إلى المذبحة التي تجري حاليا، بما فيها جريمة التجويع، ومع هذا يذهب حلّ الدولتين إلى المجهول، والاحتلال ما زال قائما، يمارس عدوانه في قطاع غزّة والضفة الغربية ويهدّد كل محيطه أيضا.