ساعة بالملايين

26 مارس 2023
+ الخط -

كم يبلغ ثمن ساعة العمر من حياة المواطن العربي لو عُرضت للبيع؟ لن نستطيع الإجابة عن هذا السؤال، ما لم نعقد مقارنة بينها وبين نظائرها لدى مواطنين آخرين يشاركوننا الحياة على هذا الكوكب، فقد عرفنا، مثلًا، أن ثمن ساعة العمر الواحدة للمواطن الأميركي تساوي ثلاثة ملايين دولار ... كيف؟

المسألة يسيرة، عرفنا ذلك استنتاجًا، من خلال حصول أميركية من أصول أفريقية على تعويض قدره ثمانية ملايين دولار من الحكومة، لقاء احتجازها خطأ ساعة واحدة من دورية شرطة، بشبهة السرقة، وعندما تم التأكّد من براءتها أطلق سراحها، غير أن المرأة التي شعرت أن احتجازها تمّ بدوافع عنصرية، بسبب لون بشرتها لم تصمت على هذه الإهانة، وعمَدت إلى رفع دعوى قضائية على الشرطة، وكسبتها، وحكم لها بالتعويض المذكور، الذي احتسب بزيادة ثلاثة أضعاف، لأن الحادثة انطوت على شكل من أشكال العنصرية. ولو لم تكن القضية "عنصرية" لحصلت المرأة، أيضًا، على نحو ثلاثة ملايين دولار ثمنًا لساعة العمر التي استولت عليها الشرطة من حياتها بلا وجه حق.

وماذا عن العربيّ لو قرأ هذا الخبر؟ لا شيء بالتأكيد، فمن الصعب على شخصٍ يشعر بأن العمر هو أرخص ما يملك أن تستوقفه مثل هذه الأنباء، لأنه يشتري كلّ شيءٍ بعمره، لا بماله الذي لا يملكه أصلًا، فهو ينقد الأثمان بالأيام والأشهر والسنوات، وما الساعات سوى "فراطة" لا تساوي ثمن كيلو طماطم.. هو يدفع من حياته ثمن البطالة والفقر والقهر وسلب الحريات، ولا يعنيه من أمر الساعات غير "ساعة التشمّس" التي ينتظرها السجناء بشوق، ويكاد يفرط ضحكًا كلما سمع جدّه الشاعر أحمد شوقي يردّد: "قد يهون العمر إلا ساعة/ وتهون الأرض إلا موضعا"؟

حقًا، هل كان شوقي يصف عربيًّا حين كتب ما كتب عن "الساعة" و"الأرض"، أم كان يصف حال مواطن أميركيّ؟ أشكّ أنه يخاطب العرب؛ فالمفروض أنه أقدر البشر على معرفة أن المواطن العربيّ يبحث عن "ساعةٍ واحدة" لا تهون كرامته فيها، بعد أن أمضى عمره برمّته في دروب المهانة، وعن بقعة عربية "خارج سياق" القمع وهدر حقوق الإنسان، فعن أيّ عربيٍّ كان يتحدّث أمير الشعراء؟

وعلى هامش خبر الأميركية ثمّة طرفةٌ مبكية، عن مواطن عربيّ احتجزته أجهزة الأمن سنوات عدة من دون تهمة، وبلا محاكمة، لأن المحقّق الذي أوقفه نسي أمره في خضمّ "انهماكه" الطويل في اعتقالاته الروتينية، ولم يجرُؤ أحدٌ من مساعديه على تذكيره به، خشية أن يلقوا مصيره ... فكم ساعة من حياة هذا المواطن سطت عليها أجهزة الأمن؟ ربما كانت طرفة، لكنها مشهدٌ مفلترٌ ومخفّفٌ لحقائق أفجع بكثير مما يحدُث في السجون العربية.

ويبقى أن "التعويض" ذاته مصطلحٌ غائبٌ من قاموس الحقوق العربي، وإن كان حلمًا يراود بعضهم، سيما عندما يقرأ خبر تلك المواطنة الأميركية. والتعويض هنا ليس بالمال وحده، فثمّة من يبحث عن "إعادة اعتبار"، مثلًا لأنه تعرّض لصفعة شرطيّة كما حدث مع التونسيّ محمد البوعزيزي، الذي كان يدرك جيدًا أن المهانة ستغدو مهاناتٍ لو طالب باعتذار على الأقلّ، فآثر أن يضرم النار في جسده.

وماذا عن "مُحدَثِ كرامة"، خطر في باله بعد أن هزّه الخبر إيّاه "كعصفورٍ بلّله القَطْرُ"، فتذكّر أنه لم يحظ بكرامة ولو "ساعة" واحدة طوال عمره في وطنه، فقرّر أن يرفع دعوى قضائية يطلب فيها عمرًا "بدل فاقد"؟ وربما تستطيل الكرامة في أعماقه، ويطالب بـ"مواطن بدل فاقد"، كونه خسر كينونته كلها في بلادٍ لا تحترم رعاياها، وتعتبرهم، على الأغلب، "فوائض عن الحاجة"؟

على الأرجح، أننا سننفق أعمارنا كلها بحثًا عن ساعة عزّ واحدة تضاهي أعمارنا المغمّسة بالمهانة. هي ساعة "استثناء" منزوعة من عمر مهدور، لا كساعة الأميركية التي كانت "استثناء" أيضًا، لم تشبه أبدًا عمرها الطافح بالكرامة.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.