ساسة إسرائيل يدفعون ثمن غطرستهم

17 أكتوبر 2023
+ الخط -

منذ انتشار المشاهد الأولية للحرب في غزّة بين مقاتلي حركة حماس والجنود والمستوطنين الإسرائيليين، جرت المقارنة بين عملية توغل المقاتلين الفلسطينين في ما عُرف بمنطقة غلاف غزة، وما حصل في حرب 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1973، أو "حرب العبور"، التي شهدت اختراق التحصينات الإسرائيلية على جبهة قناة السويس، واجتياز خط بارليف، وأعلنت عن كسر أسطورة الجندي الإسرائيلي الذي لا يُقهر، فضلاً عن توفّر عناصر ودلائل جديدة في الحرب الدائرة حالياً، فتحت الباب واسعاً أمام استخلاص دروس تتجاوز اللحظة الراهنة.
قد يكون الوقت مبكراً لتقديم قراءة موضوعية، تحيط بما يحدث في قطاع غزة والمنطقة التي أرُيد لها أن تشكل غلافها، وتضع كل المؤشّرات ضمن سياقها في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والإقليمي، وحق الشعب الفلسطيني المشروع في نيل حقوقه على أرضه، والذي أظهر تصميماً منقطع النظير للتضحية في سبيلها، وقدرة على مواجهة قوى الاحتلال الإسرائيلي، وخصوصا جيشها الأكثر تسليحاً وتمويلاً بين جيوش المنطقة، وتمريغ صورته بالوحل، وتبيان تهافت أوهام القوة والغطرسة لدى ساسة إسرائيل، وتلقين جنرالات الحرب فيها الدرس المطلوب.
ما يحدُث في غزّة، وفي سواها من الأراضي الفلسطينية المحتلة، هو تأكيد على مواصلة الفلسطينيين عدم الاعتراف ببشاعة الاحتلال، وعدم الخضوع للعدوان الإسرائيلي المستمر منذ سنوات، وكبح ادّعاءت رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي يعمل على "تطهير الأرض" من أهلها وأصحابها، والإمعان في ممارسة عنصرية متواصلة لا تجد من يوقفها في المجتمع الدولي، خصوصا من ساسة دول الغرب المنحازين بشكل أعمى للاحتلال الإسرائيلي، والذين ساهموا في جعل قوى اليمين المتطرّفة في إسرائيل تعتقد أنه يمكنها فعل كل شيء قذر ضد الفلسطينيين، بالاستناد إلى الدعم الغربي المنفطع النظير، من دون أن يدفع ساستها وجنرالاتها أي ثمن، أو أن يسائلهم أو يعاقبهم أحد في العالم.

كان متوقّعاً أن تأتي لحظة انفجار الغضب الفلسطيني طوفاناً عارماً، كي تشكّل جزءاً من عقاب مستحقّ للمسؤولين عن الممارسات الاحتلالية

يدرك العالم أجمع بشاعة الاحتلال، وفظاعة الممارسات الإسرائيلية حيال الشعب الفلسطيني، لكن ساسة الغرب الساعين إلى إحداث تطبيع شامل في المنطقة مع إسرائيل، تحت ذريعة تحقيق السلام والأمن الإقليمي، ينسون أن صنع السلام لا يتم عبر تطبيع إسرائيل علاقاتها مع السعودية والإمارات وسواهما، بل عبر السعي إلى منح الفلسطينيين حقوقهم المسلوبة منهم. ولذلك لم يبذلوا أي مسعى حقيقي في سبيل التخفيف من تداعيات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، التي تجاوزت الحدود وفاضت على دول الجوار والإقليم، وبات من أطول الصراعات أمداً، وأشدّها تعقيداً، بالنظر إلى التعنّت الإسرائيلي، وإنكار حقوق شعب بأكمله، واستمرار احتلال الأراضي الفلسطينية، وإقامة نظام فصل عنصري حيال فلسطينيي الداخل والخارج. والأنكى من ذلك كله أن ساسة اليمين العنصري المتطرّف في إسرائيل ينكرون ارتباط ما يقومون به من ممارسات بملفات المنطقة وقضاياها، وإسهامها في زيادة الاضطراب وعدم الاستقرار فيها، وذلك لأنهم يُمعنون في ضرب أي مسعىً يهدف إلى تحقيق السلام، عبر تغوّلهم في الاحتلال والاستيطان، فأصل القضية وفصلها هو الاحتلال والاستيطان الإسرائيليان. لذلك كان طبيعياً رد فعل المقاتلين الفلسطينيين، حين توغلوا في مستوطنات غلاف غزّة وما حولها، وأظهروا للعالم أجمع استعدادهم لدفع كل ما يملكون من أجل نيل فسحة من الحرية. 
إذاً، جاء الرد الفلسطيني على انتهاكات قوى الاحتلال، التي تمارسها يوميا ضد الإنسان الفلسطيني، حيث لم تتوقف عن قتل الفلسطينيين، وترحيلهم، واعتقالهم، وتدمير أماكن عيشهم وسكنهم، والتفنن في اختراع طرق لتحقير كرامتهم الإنسانية، حتى بات الاحتلال كابوساً مرعباً، يجثم على صدور ملايين الفلسطينيين منذ عقود. 
كان متوقّعاً أن تأتي لحظة انفجار الغضب الفلسطيني طوفاناً عارماً، كي تشكّل جزءاً من عقاب مستحقّ للمسؤولين عن الممارسات الاحتلالية، وبالتالي، على ساسة إسرائيل وجنرالاتها دفع ثمن غطرستهم وعنصريتهم، ولن يفيدهم قتل مزيد من المدنيين في قطاع غزّة الذي سبق أن حوّل الاحتلال معظم سكانه إلى محرومين من حقهم في العيش، ومحاصرين منذ سنوات.

ظن ساسة إسرائيل وجنرالاتها أن مواصلة الغطرسة كفيلة بإخضاع الفلسطينيين، وإفشال أي محاولة للحلّ السياسي

لم ينفع إسرائيل بناء جدار الفصل العنصري، ولا الجدار الذي بنته حول قطاع غزّة، الذي كلف ملايين الدولارات، لأنه لم يجعل إسرائيل آمنة، إذ تمكّن فلسطينيون من اختراقه، وعبروا كل الحواجز والعوائق بالدرّاجات الهوائية، وتمكّنوا من دخول أماكن محصّنة، فيما لم تتمكن الغطرسة الإسرائيلية من منعهم، لأنهم أرادوا كسرها وتبيان هشاشة ما صرفت عليه إسرائيل مليارات الدولارات. وقد أظهروا صوراً لم يتوقعها جنرالات الحرب الإسرائيليين في حياتهم، حيث أثبت الاختراق الفلسطيني أن بإمكان بضع مئات من المقاتلين الفلسطينيين تمزيق ما نسجته الغطرسة الإسرائيلية، والأهم أنهم اثبتوا أن من غير الممكن الاستمرار في سجن أهالي غزّة، من دون دفع أثمان باهظة. لذلك، على ساسة إسرائيل تعلّم الدرس، والكفّ عن مواصلة سياستهم الرامية إلى محو الفلسطينيين، بالاستناد إلى دعم ساسة دول الغرب، ولن تجدي نفعاً تهديداتهم باجتياح قطاع غزة، وتسويته بالأرض، ومعاقبة ناسه، وكأنه لم تتم معاقبتهم جماعيا في حروب واعتداءات سابقة.
لقد ظن ساسة إسرائيل وجنرالاتها أن مواصلة الغطرسة كفيلة بإخضاع الفلسطينيين، وإفشال أي محاولة للحلّ السياسي، تفضي إلى إسترجاع الفلسطينيين جزءاً من حقوقهم، وراحوا يتمادون في اغتيال الفلسطينيين، وتهشيم عظامهم، واقتلاع عيونهم، وخطفهم من بين ذويهم، ومواصلة سجن آلاف الأسرى، ومعظمهم سياسيون، وإظهار تعنّت يشي بأنهم لن ينالوا حريتهم إلا بالقوّة، لذلك كان تركيز المقاتلين في عمليتهم على أسر عديد من الجنود والمستوطنيين الإسرائيليين، كي يحصلوا على تلك القوة اللازمة لمبادلتهم بالأسرى الفلسطينيين.
لن تنفع إسرائيل مواصلة غطرسة قادتها وساستها، الأجدى لهم العودة إلى تنفيذ الاتفاقات الموقّعة، والالتزام بقرارات الشرعية الدولية، لأن استمرارهم في ممارساتهم سيعني استمرار الصراع، وبقاء ممكنات تفجير الأوضاع من جديد. ولن يتمكّن أحد من دفن القضية الفلسطينية، فهي حيّة لا تموت، ولا تنتهي، وعنوانها تحقيق العدالة للفلسطينيين، ومساعدتهم على إشادة دولتهم على ما تبقّى من أرض فلسطين التاريخية.

5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".