سارتر... سقوط الوجودية الشهوانية
من الصعب أن تشرح حجم الصدمة التي تغشاك كباحث في الفكر، حين تتجاوز المادّة التي تتحدّث عنها كلّ الفظائع الدنيئة، والطباع الشهوانية الحقيرة التي تطفح فيها، ليس كسلوك شخصي عَبَر به هذا المفكر أو ذاك الفيلسوف، لكنّه غطاء عُمر، وحالة حياة، ونمط سلوك، ظلّ يعيشه ويحفّزه، حتى عجزت قدرته، خصوصاً أنّ مستوى البذاءة والعلاقات الجنسية المتواترة والمتعدّدة في رحلة تلك الشخصيات هي مما يستحي أدب المقالة الفكرية من نشره. ولذلك سأكتفي بما يمكن أن يُعطي الدلالات المهمة لعودة العبور العربي، والعمق الإسلامي الإنساني، لتقييم تلك الكتل من الأفكار، وبالذات أنّنا نتحدّث عن نبي الوجودية المعاصرة، جان بول سارتر، وعن رسولة الراديكالية النسوية، سيمون دو بوفوار، وهو ما أعاد واجب التشريح التفكيكي لهذه الفلسفات، خصوصاً ميلاد أفكارها، وثوراتها الثقافية، وسط هذا القعر. وتأثرها بهذه الحياة التي لم تكن حياة داعرة فحسب، بل كانت هيمنة اللذة الشهوانية، وتفجير نزواتها والصراع فيها وعلى ضحاياها، السمة الأبرز في الحياة الشخصية والثقافية معاً. حيث تتضح لك آثار هذه التفاعلات والشبق الجنسي، وقهر الضحايا، والذين أصبحوا شركاء في ما بعد، حين صُنفوا من أسرة سارتر وخلية رفاقه الوجودية.
الحديث هنا عن كتاب هازل رولي "سيمون دو بوفوار وجان بول سارتر وجهاً لوجه: الحب والحياة" (ترجمة محمد حنانا، دار المدى، بغداد، 2017)، فليس هذا الكتاب لصديقٍ مرّ بهما، أو عايشهما بعض الوقت، ولا وثائق سرّية نشرت عنهما، إنه مجموع رسائلهما الخاصة، المعترف بها، ومذكّرات ورسائل مريديهم وعشاقهم وعشيقاتهم، التي جاءت لتشرح مواقفهم، وتسجيل انطباعاتهم عن رحلتهم في عالم سارتر بالدرجة الأولى، ثم دو بوفوار. أي إنّك هنا خارج مسألة التشكيك في المصادر، فأنت تتحدّث عن ملفات اعتراف ضخمة، تكشف أسرار تلك البيئات التي ولدت فيها أيديولوجيا وصلت إلى كلّ العالم، ومنذ ذلك الحين فهي فخر للتاريخ الفرنسي والأوروبي الحديث، وليس الحديث هنا عن أفكار إنسانية رشيدة، ولا مواقف إيجابية مثّلها اليسار الفرنسي الوجودي، في ما يتعلق بإرث الاستعمار، وقضية الجزائر مثلاً. رغم أنّها في الذكريات المشار إليها، دائماً تكون في هامش الفكرة الكلية للعقيدة الوجودية، خصوصاً في اختبار سارتر وإسرائيل، الذي غضب منه إدوارد سعيد، سنأتي على ذكره في حينه، فمشروع سارتر، من خلال حياته ورسائله، كان بين هاتين الفكرتين، الشهوانية المجنونة الهستيرية ودمجها بفكرة الفردانية المطلقة، وكانت قاعدة كلا الأمرين العدمية: "من أنا كإنسان وما يحكمني، وكيف أعيش حريتي، من دون أي مدار أو سياق أخلاقي".
الميراث الذي تركه صليب الكنيسة وسيف المستبد، ينتقل إلى الأجيال الجديدة، الباحثة عن مزيد من الحرية
لقد وثّق الكتاب حالاتٍ عديدة شملت حياة روسو ودو بوفوار، كانت تعتمد، منذ البدايات، على استقطاب الشباب، وبالذات الفتيات، وكان سارتر في حالة صعود منذ بدأ حضور خطابه وجاذبيته، التي كانت تسري في الشباب، والذي وضح فيه حجم الفراغ الأخلاقي، الذي يعيشه المجتمع، منذ الثورة الفرنسية، فرغم وجود ما سميت الأخلاق الكاثوليكية، فقد كانت ضعيفة، فالميراث الذي تركه صليب الكنيسة وسيف المستبد، ينتقل إلى الأجيال الجديدة، الباحثة عن مزيد من الحرية، والغاضبة من هذا الميراث والمتسائلة أين الطريق الجديد للحياة المدنية... في ذلك الحين صعد اسم سارتر، وقُرنت به دو بوفوار كشريكة وعشيقة ورفيقة درب، وكانت لكلّ صفات دو بوفوار مع سارتر حكاية خاصة، صنعت أزمتها النفسية الضخمة، التي أبكتها مراراً، وهي تحتاج لتفصيل مهم، لقد كان منهجاً عاماً وليست حالة فردية، ومنها كيف كان سارتر أو دو بوفوار يتعاملان مع الشابات المعجبات بفكرهما، مما كُشف في رسائل سارتر المهمة، والتي نُشرت عبر أرشيف دو بوفوار بكاملها، بعد تنفيذ ابنتها بالتبنّي وصيتها بعد موتها، بما فيها من مهرجان فضائحهما. أي إنّهُ أرشيف مباشر، يعكس خلفية الحدث والموقف في تلك الحياة الخاصة، الخصبة والمتفاعلة، في حياة سارتر، عن كلّ فتاة انضمت لفريقهما الخاص، فقد كان المدخل هو التعرّف على فلسفة سارتر الوجودية، لكنّ سارتر، ومنذ البداية، كان يُقيّم المقبلات عليه جنسياً، ونقول جنسياً وليس عاطفياً، فليست واحدة ولا اثنتين، لكن، كما اعترف بذلك في مقابلة، إنّهن عشر، وأنّهُ كان يُسيّر حياته بينهن بالكذب، هكذا قال، وقال: حتى دو بوفوار كنت أكذب عليها. ومن الضروري أن يشار هنا إلى أنّ حساب الكذب والتزوير أو التدليس في الحقائق الذي تحققت منه هازل رولي يُبرز حجم الحقيقة المغيبة، التي تختلف بين ما نشرته دو بوفوار وسارتر في مقابلاتهما وما بين الحقائق التي عايشاها على الأرض.
كان سارتر يضع خطّة في مخيلته لجذب الضحية، إلى الإعجاب به، وغالباً ما تستهويه العذارى من الفتيات
كان سارتر يضع خطّة في مخيلته لجذب الضحية، إلى الإعجاب به، وغالباً ما تستهويه العذارى من الفتيات، وخلال هذه الخطة يُمارس عليهن الإغواء والنقد المستفز، حتى يفتضّ بكارتهن، ويحتفي بذلك في رسائله إلى دو بوفوار، وإن أخفى عنها أو كذب عليها في تفاصيل أخرى، خصوصاً في رغبته المتكرّرة في استثمار أكبر قدر من الزمن مع العشيقة المحظية ذلك الموسم.
لكن، كيف يفعل ذلك مع دو بوفوار رفيقته الأولى؟ أولى قواعد الوجودية التي قذف بها بقوة سارتر في وجه دو بوفوار، هي أنّهما لا بد أن يمارسا الحرية الفردية المطلقة، وبالذات في الانخراط غير المحدود في عالم الجنس، وحتى يُدرّبا الذات على ذلك، اقترح عليها أن تُخبره بكلّ تفاصيل علاقاتها، وهو يفعل، وقد جرى ذلك، لكنّهما بقيا يكذبان في زوايا أخرى، وبعض الحالات كانت تستقطبها دو بوفوار، في لحظة هوس الشابة بشعوذة الوجودية واللذة، وتدخل معها في ممارسة سحاقية، ثم تُهيّئ الطريق لسارتر، حتى ينهي حياتها العذرية ويتّخذها خليلة، قبل أن يتراجَع موسمها بسبب أخرى، وهذا موثق في الرسائل.
كانت تلك بداية أزمة دو بوفوار التي انفجرت بعد ذلك، ليس ضد سارتر، لكن ضدّ المرأة والأنوثة.