زوجات أم حاكمات؟
تُقام الجنازات العسكرية أيضا لموتى مدنيين، في مصر وغيرها. ولكنه عجيبٌ أن عبد الفتاح السيسي أقام لجيهان السادات الأولى من نوعها لامرأةٍ في مصر (وفي العالم أيضا؟ لا أعرف)، فليس للراحلة يوم الجمعة الماضي (عن 87 عاما) عطاءٌ جليلٌ فائقُ الاستثنائية لبلدها ومواطنيها يُمَكّن من فهم هذه الجنازة التي تقدَّمها الرئيس نفسه، حتى لو صحّ فائض المجاملة في نعي الرئاسة المصرية لها، إنها "قدّمت نموذجا للمرأة المصرية في مساندة زوجها (أنور السادات) في ظل أصعب الظروف". .. هذا الأمر حاشيةٌ على ما يمكن استدعاؤه من سيرة المتوفّاة، ومن أدوارها في التأثير على زوجها، بشأن قراراتٍ وخياراتٍ في الحكم ومزاولة السلطة إبّان كان رئيس مصر، وقبلاً لمّا كان نائبَ الرئيس، ليجوز القول، تَبَعا، إن جيهان بدت نموذجا اقتدت به لاحقا زوجاتُ رؤساء عرب أُخريات، لا شطط في الزعم إنهن لم يكنّ محض زوجات، وإنما حاكماتٌ ومتحكّماتٌ، وإنْ، للحق والحقيقة، كانت جيهان الأقل تعسّفا وفسادا منهن، وإنْ في البال أن وسيلة بورقيبة في تونس جايلتْها في هذا زمناً، وربما أحرزت نفوذا أعلى في بلدها. وإنْ في الوسع أن يؤتى، في الأثناء، على زوجات سلاطين وخلفاء وأمراء في تاريخ المسلمين، حكمن وتحكّمن، .. زبيدة زوجة هارون الرشيد مثلا.
ترأست جيهان السادات التي أبلغتها عرّافةٌ، في صباها، أنها ستصبح "ملكة مصر" (أفرطت في رواية هذا في مقابلاتها الصحافية الغزيرة) نحو 30 منظمة وجمعية خيرية (الهلال الأحمر مثلا) في مصر، في الأحد عشر عاما للسادات رئيسا، ونشطت من أجل تحسين قانون الأحوال الشخصية لصالح المرأة المصرية. وبعيدا عن حكاياتٍ تواترت عن سحر نفوذها على أساتذةٍ جامعيين، لبعضهم مكانةٌ علميةٌ مقدّرة، قيل إنهم أعدّوا لها أبحاثها في الماجستير والدكتوراه في الأدب العربي، فإنه لافتٌ أن يُذكر في سيرتها أنها اقترحت على بعلها الرئيس تعيينَ مدنيٍّ نائبا له، هو الوزير في قصر الرئاسة، منصور حسن، غير أن الجيش لم يستحسن هذا، وساندَ اختيار الفريق طيار حسني مبارك. ولافتٌ أكثر أنه انكتب وقيل إن أنور السادات لم يكن يُطلعها على قراراته المهمة، لكنها كانت تستشعرها، وتبدي بشأنها، أحيانا، ما تبديه، بل ثمّة من كتب إنها كانت "تتجسّس" عليه (الله أعلم). وليست محسومةً مقادير الصحة في أن دورا لها كان في إفساد العلاقة بين جمال عبد الناصر ونائبه (قبل تولية السادات بدلا منه)، حسين الشافعي.
لم تكتف خليفتها في اللقب الذي افتعلته لنفسها "سيدة مصر الأولى"، سوزان مبارك، بأدوار شرفيةٍ واجتماعيةٍ، تخصّ المرأة والأسرة المصرية، وإنما عملت في العشرية الثالثة من رئاسة زوجها على تزبيط توريث موقعه إلى نجلهما، جمال مبارك (جاءت على هذا الأمر برقيةٌ أميركيةٌ من القاهرة نشرها "ويكيليكس"). وفي الغضون، استبدّت بها شهوة السلطة وجمع المال، وكانت لها أدوارها في توزير فلان وفلانة وعلان وعلانة، وتسمية هذا وذاك، وهذه وتلك، لمناصب رفيعة، تكريما منها لهم، وقد أتقنوا التزلّف لها، أو مكافأة لزوجاتهم من صديقاتها ومعارفها. والأرشيف في هذا ثقيل. وليس منسيا أنه صدر قرارٌ بحبسها احتياطيا 15 يوما، بعد تحقيق جهاز الكسب غير المشروع معها، عقب ثورة يناير في 2011، ودفعت 24 مليون جنيه مصري لتنجو من الاحتجاز، ثم تصدُر براءتها.
وفي تونس، كانت وسيلة بورقيبة في سنوات مديدة حاكمةً فعلية. يذكرون أنها التي حالت دون وحدة مع ليبيا في 1974، وقبل ذلك أطاحت النقابي أحمد بن صالح من منصب وزاري إلى محاكمته وسجنه، وحالت دون تسمية السفير والوزير محمد الصيّاح في 1980 وزيرا أول. ويكاد يكون موثوقا أنها التي أقنعت الرئيس باستضافة تونس منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها وفدائيين عديدين بعد موقعة بيروت صيف 1982. أما خليفتُها، ليلى بن علي، في لقب "سيدة تونس الأولى"، فإنها، إلى توزير من كانت تريد، وحبس من كانت تريد، لا تزيّد في القول إن الفساد الأسود الذي زاولته، وإمبراطوريته من إخوانها وأقاربها وأقارب زوجها الرئيس كان من الأسباب القوية للثورة التي خلعتهما. وفيما تقيم حاليا مستضافةً في جدّة، ثمّة حكمٌ غيابيٌّ عليها بالسجن 35 عاما. .. وفي بلدٍ آخر، لم يسقط فيه الرئيس بعد، اسمه سورية، ثمّة نموذجٌ صارخٌ لزواج الاستبداد والتسلط والفساد، من نجومه الصاعدين أسماء الأسد، نقرأ أنها تصارع ذئبا جريحا، اسمُه رامي مخلوف، في ملعب الفساد والنهب والسرقة، والروائح الكريهة من هناك عفنةٌ عطنة ...
رحم الله جيهان السادات، يسّرت جنازتها العسكرية البالغة الشذوذ مناسبةً لاستدعاء مقاطع من أرشيفٍ عربيٍ وسخ.