09 نوفمبر 2024
زها حديد.. خيال الرافدين
بشير البكر
بشير البكر كاتب وشاعر سوري من أسرة "العربي الجديد" ورئيس تحرير سابق
كنا نعرف أنها تتقدم بسرعة، وترتقي في طريق العمارة، لكننا لم نتواصل على قدر كبير مع منجزها المدهش الذي بات من أبرز علامات البناء الحديث والمختلف، في عدة عواصم كونية كبرى، تحتفي بالجديد والخارق، مثل لندن ونيويورك وبكين.
هي امرأة منا. نعم، كانت تتكلم لغتنا، وتستخدم مفرداتنا، حين نريد أن نتحدّث عن جرحنا الكبير، وخساراتنا التي لا تتوقف عند حدٍّ في الحاضر، وربما في المستقبل، والفارق بينها وبين الجميع أنها استطاعت أن تنتقم للنار التي تشتعل في داخلها، وتترك في كل أثر معماري بصمةً خاصةً، تحيل إلى الكائن الحضاري الأول الذي ولد في بلاد ما بين النهرين من طمي وطين، وصنع من الحجر أسطورةَ المكان والكائن الذي أهدى البشرية المكتبة والقانون وأسطورة الخلود.
في كل مرةٍ كنت أرى زها حديد تتحدّث عن مشروعها المعماري، يحضرني العراق في صورته الأصلية، تلك التي بقيت عصيةً عبر تبدل أطوار الحضارة، واستمرت أقوى من كل الغزوات والحروب التي حاولت أن تُرجعها إلى العصر الحجري. وليس مصادفةً أن كل غزاة العراق، التتار الجدد والقدامى، كانوا يربطون هزيمة هذا البلد بإعادته إلى العصر الحجري. ومن يتأمل الأثر الذي أحدثته زها حديد في العمارة يجد أنه يعود إلى الخلطة الباهرة بين ذاكرتها العراقية والتراث العمراني الكوني وما وصلت إليه البشرية من تقدمٍ في المدنية، ولا يمكن أبداً أن تكون هذه الروح المتشظية إلا من باب الوفاء للشعريّة العراقية، وعرفانٍ بالجميل للعراق الذي يحتاج إليه اليوم، في زمن المحنة الكبرى التي يتداول عليها لصوص وحثالات الداخل والخارج.
ترحل زها حديد في لحظةٍ مفصلية من عمر العمارة والعمران في العالم العربي الذي طالما اعتزّ بتراثه الجمالي في هذا الميدان منذ أول لبنة. وكانت المعمارية تتألم، وهي تشهد ولادة هذا الهجين الإسمنتي عديم الشكل والمضمون، الوحش المفترس الذي يفتك بالمدينة العربية القديمة في كل حواضرنا، في وقت تكمل فيه الحروب تدمير العمران العربي في العراق وسورية. وليس مصادفةً أن يتعرّض المتحف العراقي للنهب عام 2003 على مرأى من قوات الاحتلال الأميركي، ويتم بعد ذلك تدمير شخصية بغداد، عاصمة الرشيد، لتتحول من مركزٍ للثقافة والابداع إلى مسرحٍ للموت والقتل والتكفير، وليس مصادفةً أن يستولي داعش على جزء كبير من آثار العراق وسورية، ليتاجر بها من أجل تمويل عمليات القتل، ومن ثم يعمل أدوات التدمير بالمدينة العربية، من حلب إلى الرقة فالموصل، وفي كل مكان لجأ إليه هذا الوحش، جرت عملية تهجيرٍ لأهل المكان وتدمير عمرانه، مثلما يحصل اليوم على ضفاف دجلة والفرات والخابور، حيث يتم هدمٌ كاملٌ لتراثٍ عمرانيٍّ مدنيٍّ وهوية ضاربة الجذور، ويتحوّل هؤلاء الدعاة الجدد، باسم "السلفية الجهادية"، إلى نباشين لقبور الموتى الذين حرثوا الأرض، وأقاموا العمران، وإلى حفاري قبورٍ لما بقي من أحياء في هذه المنطقة التي قاومت شتى حملات طمس شخصيتها الحضارية.
ترحل زها حديد، في زمنٍ تعيش المدنية العربية لحظة تدميرها على يد تحالف الاستبداد والتكفير، فيأتي رحيلها مثل زفرةٍ أخيرةٍ كاحتجاج على ما نعيشه من انهيارٍ وانحطاطٍ لا حدود له، حيث يتم قتلٌ منهجيٌّ لثقافة المعنى في حياتنا، ويجري تصنيع طغاةٍ جددٍ من النشالين واللصوص، في دهاليز واشنطن وتل أبيب وطهران، من أجل طرد العرب من الأرض التي بقيت، مدى التاريخ، مهد الحضارة ومسقط رأس الإنسان الأول.
زها حديد مدرسة في العمارة، وحركة جمالية في زمن الضحالة والسهولة، بطاقةٍ هائلةٍ على الابتكار، تكفّل بها، ورعاها، خيال الرافدين.
هي امرأة منا. نعم، كانت تتكلم لغتنا، وتستخدم مفرداتنا، حين نريد أن نتحدّث عن جرحنا الكبير، وخساراتنا التي لا تتوقف عند حدٍّ في الحاضر، وربما في المستقبل، والفارق بينها وبين الجميع أنها استطاعت أن تنتقم للنار التي تشتعل في داخلها، وتترك في كل أثر معماري بصمةً خاصةً، تحيل إلى الكائن الحضاري الأول الذي ولد في بلاد ما بين النهرين من طمي وطين، وصنع من الحجر أسطورةَ المكان والكائن الذي أهدى البشرية المكتبة والقانون وأسطورة الخلود.
في كل مرةٍ كنت أرى زها حديد تتحدّث عن مشروعها المعماري، يحضرني العراق في صورته الأصلية، تلك التي بقيت عصيةً عبر تبدل أطوار الحضارة، واستمرت أقوى من كل الغزوات والحروب التي حاولت أن تُرجعها إلى العصر الحجري. وليس مصادفةً أن كل غزاة العراق، التتار الجدد والقدامى، كانوا يربطون هزيمة هذا البلد بإعادته إلى العصر الحجري. ومن يتأمل الأثر الذي أحدثته زها حديد في العمارة يجد أنه يعود إلى الخلطة الباهرة بين ذاكرتها العراقية والتراث العمراني الكوني وما وصلت إليه البشرية من تقدمٍ في المدنية، ولا يمكن أبداً أن تكون هذه الروح المتشظية إلا من باب الوفاء للشعريّة العراقية، وعرفانٍ بالجميل للعراق الذي يحتاج إليه اليوم، في زمن المحنة الكبرى التي يتداول عليها لصوص وحثالات الداخل والخارج.
ترحل زها حديد في لحظةٍ مفصلية من عمر العمارة والعمران في العالم العربي الذي طالما اعتزّ بتراثه الجمالي في هذا الميدان منذ أول لبنة. وكانت المعمارية تتألم، وهي تشهد ولادة هذا الهجين الإسمنتي عديم الشكل والمضمون، الوحش المفترس الذي يفتك بالمدينة العربية القديمة في كل حواضرنا، في وقت تكمل فيه الحروب تدمير العمران العربي في العراق وسورية. وليس مصادفةً أن يتعرّض المتحف العراقي للنهب عام 2003 على مرأى من قوات الاحتلال الأميركي، ويتم بعد ذلك تدمير شخصية بغداد، عاصمة الرشيد، لتتحول من مركزٍ للثقافة والابداع إلى مسرحٍ للموت والقتل والتكفير، وليس مصادفةً أن يستولي داعش على جزء كبير من آثار العراق وسورية، ليتاجر بها من أجل تمويل عمليات القتل، ومن ثم يعمل أدوات التدمير بالمدينة العربية، من حلب إلى الرقة فالموصل، وفي كل مكان لجأ إليه هذا الوحش، جرت عملية تهجيرٍ لأهل المكان وتدمير عمرانه، مثلما يحصل اليوم على ضفاف دجلة والفرات والخابور، حيث يتم هدمٌ كاملٌ لتراثٍ عمرانيٍّ مدنيٍّ وهوية ضاربة الجذور، ويتحوّل هؤلاء الدعاة الجدد، باسم "السلفية الجهادية"، إلى نباشين لقبور الموتى الذين حرثوا الأرض، وأقاموا العمران، وإلى حفاري قبورٍ لما بقي من أحياء في هذه المنطقة التي قاومت شتى حملات طمس شخصيتها الحضارية.
ترحل زها حديد، في زمنٍ تعيش المدنية العربية لحظة تدميرها على يد تحالف الاستبداد والتكفير، فيأتي رحيلها مثل زفرةٍ أخيرةٍ كاحتجاج على ما نعيشه من انهيارٍ وانحطاطٍ لا حدود له، حيث يتم قتلٌ منهجيٌّ لثقافة المعنى في حياتنا، ويجري تصنيع طغاةٍ جددٍ من النشالين واللصوص، في دهاليز واشنطن وتل أبيب وطهران، من أجل طرد العرب من الأرض التي بقيت، مدى التاريخ، مهد الحضارة ومسقط رأس الإنسان الأول.
زها حديد مدرسة في العمارة، وحركة جمالية في زمن الضحالة والسهولة، بطاقةٍ هائلةٍ على الابتكار، تكفّل بها، ورعاها، خيال الرافدين.
دلالات
بشير البكر
بشير البكر كاتب وشاعر سوري من أسرة "العربي الجديد" ورئيس تحرير سابق
بشير البكر
مقالات أخرى
02 نوفمبر 2024
26 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024