زميلَنا الألماني.. ماذا فعلت بنا؟

25 ديسمبر 2018

كلاس ريليوتيروس

+ الخط -
اغتبط محبّون لنظام الأسد بين ظهرانينا بالخبر، المثير حقّا، عن فبركة الصحافي الألماني، كلاس ريليوتيروس (33 عاما) قصصا إخباريةً نشرها في مجلة دير شبيغل التي كان يعمل فيها، وذلك لأن اثنتين من مواده الملفقّة هذه (هل هي 14 فعلا؟) تتعلقان بسورية. واحدةٌ عن طفليْن سوريين يتيميْن، كتب الصحافي إنه التقاهما في تركيا، ثم نجح في استقدامهما إلى ألمانيا، فتبنّاهما زوجان طبيبان ألمانيان. والثانية تتضمّن مقابلاتٍ اختلقها مع شبّان سوريين أسهموا في إشعال الثورة في بلدهم في العام 2011، وقد "استحقّ" على قصته المزيّفة هذه جائزة صحافي العام، من قناة سي إن إن الأميركية. ومبعث غبطة محبّي نظام الأسد بما ارتكبه هذا الصحافي أن تقريريْه الكاذبيْن هذين يؤكدان، بحسبهم، أن كل ما نشر في وسائط الإعلام الأجنبية والعربية عن جرائم النظام الذي يحبّون ومجازره مفبركٌ وملفق، وقد أطنبوا، في تغريداتٍ ومنشوراتٍ، في القول إن فضيحة "دير شبيغل" شاهدٌ جديدٌ على صدق ما يدّعون. 

يغشانا، نحن العاملين في الصحافة، أسىً كثير، بسبب فِعلة "الزميل" الألماني، والذي وُصف في بلده بأنه "سوبر ستار الصحافة الألمانية"، وإنْ قد يحسُده بعضُنا على براعته في الضحك على مجلة دير شبيغل، ذات المهنية الرفيعة، والعريقة (71 عاما)، وقد التحق بها صاحبنا هذا موظفا قبل عام، بعد سنواتٍ من التعاون معها. وقد يُحسَد أيضا على "شطارته" في تمرير تزويره المُتقن على مؤسساتٍ إعلامية ثقيلة، في أوروبا والولايات المتحدة، كرّمته بجوائز رفيعة. ولمّا كانت أكثر موضوعاته الملفّقة تتعلق بقصصٍ بعيدةٍ عنا نحن العرب (إحداها من الحدود الأميركية المكسيكية)، فإن انتباهنا إلى المصيبة التي أحدثها بسمعة مهنتنا كان سيصير أقل، لولا التفاتُه إلى الموضوع السوري، من جوانب إنسانية كما يبدو، بل وشاعرية أيضا بحسب حيثيات منحه جائزة "سي إن إن"، فكأن السوريين، في غضون ثورتهم المغدورة، وتهدّم بلدهم، وتشرّد ملايين منهم، وقتل مئات آلاف منهم، لا ينقصُهم سوى صحافي ألماني، يفتعل قصصا عنهم، تُعجب من يمنحونه جوائز عنها (!)، فيما مأساتُهم قدّام عينيه، ولم يكن في حاجة إلى اختلاق ما يريد من "إنسانية".
لقد ألحق هذا الرجل ضررا فادحا بتغريبة الألم السوري الراهن، فقد تسلّح بأزعومته قومويون وشيوعيون، في الأردن مثلا، للتدليل على براءة نظام الأسد من ارتكاب مجزرة السلاح الكيميائي في غوطة دمشق، ومن انتزاع حنجرة إبراهيم القاشوش، ومن ارتكاب مجزرة الحولة.. وإذ جاءت الأخبار، أخيرا، عن تحويل كلاس ريليوتيروس إلى النيابة، لجمعِه تبرعاتٍ من أجل الطفلين السوريين اليتيمين اللذيْن افتعل مبالغاتٍ وأكاذيب عنهما، فقد يعمد المشار إليهم إلى مشابهة هذا الاحتيال برمي مؤسساتٍ اعتنت بمساعدة اللاجئين السوريين بالسرقة والنصب، قياسا منهم الشاهدَ على الغائب، وذخيرتُهم في ذلك زوّدهم بها صحافيٌّ محترفٌ في ألمانيا، وليس من أي بلد عالمثالثي، الصحافة فيه منقوصة الحرية، وضعيفة المهنية والمصداقية.
ليس جديدا أن يُفبرك صحافيون، في مؤسساتٍ إعلاميةٍ عتيدةٍ، قصصا وأخبارا، ولا أن يقبضوا أموالا نظير تلميعٍ هنا أو تشويهٍ هناك، وليست منسيةً الضربة الناجحة التي تمكّن فيها مسؤولٌ في البلاط المغربي من إسقاط صحافيين فرنسيين في صحيفة لوموند في فخٍّ مدروس، كشف تعمدّهما ابتزاز الملك محمد السادس بنشر كتابٍ يلفّق محكياتٍ غير حقيقية (سبتمبر/ أيلول 2015). ومشهورٌ أن ثمّة آلياتٍ وطرائقَ تنتهجها أجهزةٌ في دول ديمقراطية في تمرير أخبار وتقارير وصور في وسائط الإعلام من أجل تصنيع الرأي العام و"التلاعب بالعقول"، وقد جاء كتابٌ ممتاز (على قِدَمِه) على تفاصيل مثيرةٍ في هذا كله، للأميركي هربرت شيللر (صدر في 1974 ونقل إلى العربية في 1986). ليس هذا كله، وغيره كثير، جديدا، غير أن شطارة الألماني كلاس ريليوتيروس في "دير شبيغل" غير مسبوقةٍ فيما أرجّح، سيما وأنه ذو كفاءةٍ عاليةٍ في تصنيعه التزوير الذي أتقنه، واحتاج انكشافُه إلى مصادفةٍ تدحرجت إلى فضيحة، وسيما أيضا أنه سوّغ سوء استخدامِه موهبَته (بتعبير صحيفة دي فيلت) بأنه كان يخشى الفشل!
دلالات
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.