زلازل الأخبار العاجلة
نقترض، نحن أهل الصحافة، كتّاب التعاليق والتقارير الإخبارية خصوصاً، من أهل الجيولوجيا مفردة الزلزال، لخلعها صفةً على حدثٍ كبيرٍ مدوٍّ وبالغ الأهمية، فنكتبُ عن زلزالٍ سياسيٍّ جرى في هذه المنطقة أو تلك، أو أن هذا الخبر يمثّل زلزالاً سياسياً. وبالتأكيد، كان احتلال الجيش العراقي في صيف 1990 الكويت زلزالاً سياسياً مدوّياً، وفادح الوقْع، وظلت ارتداداته تتوالى منذ ثلاثة عقود. ولكنها الأخبار من هذه السويّة الثقيلة، كما حدث 11 سبتمبر (2001)، مثلاً، ليست وحدَها التي تستحقّ، مع متوالياتها، أن تكون عاجلةً في المساحات الحمراء المستطيلة على شاشات الفضائيات وفي المواقع الإلكترونية الإخبارية، فخبرٌ عاجلٌ لا شك إقالة الرئيس دونالد ترامب وزير الخارجية ريكس تيلرسون، كما نيْل بوب ديلان جائزة نوبل ديلان، ووفاة مارادونا. وبديهيٌّ أن منسوب الأهمية لخبرٍ أو مستجدٍّ لدى جمهورٍ محليٍّ لفضائية محلية مختلفٌ عن أهمية خبر آخر لدى جمهورٍ متنوّعٍ وعريضٍ من مشاهدي فضائيةٍ عربيةٍ كبرى أو عالمية، فليست خبرا ذا قيمة، زيارة نانسي بيلوسي تايوان، لدى أهالي بلدة أردنية تباغتهم الشاشات قدّامهم عن تعديل (رفع) أسعار المحروقات. وأيا كان الحال، هناك فضائياتٌ عربيةٌ تبتذل "الخبر العاجل"، من قبيل الذي تفعله قناة العربية كثيرا، مثل وصول عبير موسي إلى جلسةٍ للبرلمان التونسي (قبل حلّه طبعا).
أخبارٌ عاجلةٌ وزلازل سياسيةٌ نشتهي، نحن المكلومون بفعل الثورات المضادّة وجرائمها، أن تستجدّ في غير بلدٍ عربي، تتخايل في أفهامنا ومداركنا، يُحدّث واحدُنا نفسه بأنه قد يفرح بأن يفاجأ بها صباح غدٍ بعد استيقاظه من النوم. من قبيل بيان رقم 1 في سورية يُخرج بشار الأسد وأسرَته من قصر المهاجرين إلى محاكمة مستحقّة، أو اشتعال جولةٍ ثانيةٍ من ثورة الياسمين في تونس ُينقِذ قيس سعيّد نفسَه منها بالهرب إلى أبوظبي، أو لقاءٍ مفاجئٍ في وهران بين الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون وملك المغرب محمد السادس، أو الإفراج عن مروان البرغوثي من الأسر الإسرائيلي في صفقةٍ ما، أو منح أدونيس جائزة نوبل للآداب. ولكن المستجدّات المفاجئة لا تحدُث على هذا النحو، نريدُها أن تصير فتصير.
زلزالٌ طبيعيٌّ مهولٌ في تركيا وشمال سورية، غير سياسي، وتتابعت ارتداداتٌ له تاليا، باغتتْنا أخبارُه العاجلة صباح أمس الاثنين، ولم تُغادر شاشاتِ الفضائيات والمواقع الإخبارية سحابة النهار. استنفر الحدثُ فينا عواطفَ حرّى تجاه الضحايا، وأعدادُهم كبيرة، عدا عن مفقودين تحت الأنقاض وجرحى ظلّت أعدادهم تتزايد قدّام عيوننا. وكنّا نأمل زلزالا سياسيا لم يقع. بدوْنا أمام أرقامٍ صمّاء، عن ناسٍ لكل واحدٍ منهم تفاصيل في حياته ويومياته ذهبت معه، أطفالٌ وشيوخٌ وشبّانٌ وصبايا وعجائز. صادفنا في حسابات أصدقاء ومعارف يُخبرون عن أهلٍ لهم فقدوهم في مقتلة الزلزال في سورية. رأينا صور الفاجعة في الجغرافيا السورية التي تُغالب موتا مستمرّا بفعل الذي نعرف من إرهاب النظام الحاكم ومعارضين له. رأينا عمائر انهارت في تركيا البلد الذي نعتاد على زيارته سياحةً وتزجيةً للوقت مع زملاء وأعزاء لنا فيها. رأينا الأخبار العاجلة عن مساعداتٍ أوروبيةٍ وعربيةٍ وأميركيةٍ وآسيوية. رأينا أرقاما تتصاعد لأعداد الضحايا الأتراك.
الزلزال هنا زلزالٌ بحقٍّ وحقيق، كارثيٌّ إنساني، ينتسب إلى الجيولوجيا وعلوم الأرض، لا صلة له باستعاراتنا التي نألفها في بلاغياتنا وإنشائياتنا، ولا بالشحنات اللغوية التي نحتاجها في مفاجآتٍ مدوّيةٍ، تفجّر متواليات من الوقائع، كالحروب التي ما أن تشتعل يعوزُها زمنٌ مديدٌ ليتوقّف إطلاق النيران فيها، كالاغتيالات والجرائم، كالانقلابات العسكرية وغير العسكرية، كالغيابات المباغتة في وفيات زعامات وجواسيس وقيادات. الزلزال هنا مغايرٌ لمُعجمنا الذي نتوسّل منه، نحن أهل الصحافة، مجازاتٍ تسعفنا في التدليل على هوْل ما نكتب عنه، أو خطورته، أو فداحة تبعاته. الزلزال هنا تتناسل منه أخبارٌ عاجلةٌ عن موتى وجرحى ومفقودين، عن عُمرانٍ يطيح، عن بلدٍ اسمه سورية يقيم في مقتلةٍ بلا نهايات، تتعدّد فيها أنواع الموت والخراب... الشفاء للجرحى والرحمة للموتى والصبرُ لأهلهما.