روسيا وعقدة ميكولايف في أوكرانيا
قد يشير مصطلح عقدة إلى مرض أو أزمة نفسية، والعقدة النفسية في اعتبار مدرسة التحليل النفسي هي المبعث على تصرفاتٍ لا واعية تصدُر عن الشخص، أو هي اتجاه انفعالي لا شعوري لا يبرح يؤثر في التفكير والسلوك. وهذا السلوك النفسي لا يعاني منه قادة روسيا، بل أصبح لديها عقدة عسكرية تسمّى ميكولايف، ظهرت في أثناء حربها على أوكرانيا. حيث هدفت روسيا مما أسمتها عمليات عسكرية خاصة في أوكرانيا إلى فرض إرادتها على الشقيق الأصغر والأقرب إليها؛ تاريخاً وثقافةً وديناً وأصلاً عرقياً. وفرض الإرادة يعني استسلام أوكرانيا للمطالب الروسية التي أشبه ما تكون بالتعجيز، وتعني الاستسلام التام، إذ تنطوي المطالب على حياد أوكرانيا، وتجريدها من السلاح، وإسقاط نظام الحكم الحالي، والقضاء على المجموعات القومية (النازية)، وإعادة الاعتبار للغة الروسية... وغيرها. لكنّ أوكرانيا لم تتجاوب، وتصر على مواصلة القتال حتى تحرير كامل أراضيها التي احتلتها روسيا منذ عام 2014. ويحظى هذا الموقف بدعم غربي متذبذب بين الولايات المتحدة وبريطانيا، اللتين تشجّعان كييف على مواصلة القتال حتى آخر جندي أوكراني، وباقي دول الاتحاد الأوروبي التي تسعى إلى إنهاء الحرب لتأثيرها على أمنها واقتصاداتها ورفاهيتها. إلّا أنّ الدعم الخارجي من دون الصمود على الأرض لا يلعب دوراً حاسماً في مجريات المعركة، وهذا الصمود الأوكراني يُسجل في ساحات القتال، فرغم خسارة أوكرانيا بعض أراضيها في الشرق والجنوب، إلّا أنّ أرض المعركة، ومنذ أكثر من شهر، تشهد تطوراتٍ مهمة على مسرح العمليات في شرق أوكرانيا وجنوبها، فقد باتت خطوط القتال في الشرق شبه ثابتة في منطقة دونيتسك، حيث تدور معارك يومية باستخدام المدفعية الثقيلة والصواريخ المتوسطة المدى، لكن بتقدّم روسي بطيء على الأرض.
وليس مفهوماً ما يحدُث روسياً، فالقيادات العسكرية والسياسية في كييف، وفي بعض الأوساط الغربية، ترى أنّ روسيا قد استنفدت قواها وتعرّضت للهزيمة، بينما يصف مستشار وزير الدفاع الأميركي السابق، العقيد دوغلاس ماغريغور، تكتيكات الرئيس الروسي، بوتين، في أوكرانيا بأنّه لا يمكن التغلب عليها، إذ صرّح خلال مقابلة مع قناة Judging Freedom إنّ الدعم الأميركي "قد يؤخّر تقدم الروس في بعض المحاور فترة قصيرة فقط، لكنّه لن يغير شيئاً، ولن يوقف تقدّم الجيش الروسي، ولن يُحدث تغييراً جوهراً في مسار الأحداث لصالح أوكرانيا". يؤكد أنّ الجيش الروسي يتقدّم في أوكرانيا ببطء لتقليل الخسائر، والمساعدة الأميركية لكييف لن تمنع موسكو من تحقيق أهدافها.
أصبحت معركة ميكولايف نقطة تحوّل في المعارك، ومن يومها تغيرت الاستراتيجية العسكرية الروسية وانكفأت نحو الشرق
رغم هذا الحديث الاستراتيجي للعقيد الأميركي، أحدثت القوات الأوكرانية مفاجآت في الجنوب، أهمها صمود إقليم ميكولايف (نيكولايف بالروسية)، وهو من الأقاليم الناطقة بالروسية، يقع في جنوب أوكرانيا ما بين مقاطعة خيرسون التي استولت عليها روسيا في الجنوب الشرقي ومقاطعة أوديسا في الجنوب الغربي، والتي كانت هدفًا رئيساً للقوات الروسية المهاجمة، حيث حاولت، منذ بداية المعارك، تطويقها من البحر عبر احتلال جزيرة الأفعى المقابلة لها والالتفاف حولها من الشمال والشرق، من خلال اختراق الدفاعات الأوكرانية في ميكولايف التي وصلت إليها القوات الروسية يوم 26 شباط/ فبراير 2022. ثم باءت كل المحاولات الروسية بالفشل، رغم كثافة القصف الجوي والصاروخي الروسي، حيث طُردت القوات الروسية المتوغلة من المقاومة الأوكرانية وتراجعت نحو خيرسون. بل أدّى صمود ميكولايف الى استبسال المدافعين عن أقاليم الجنوب، حيث دمّرت القوات الصاروخية الأوكرانية البارجة الروسية موسكفيتش في البحر الأسود، ما جعل الأسطول الروسي ينسحب بعيدًا عن الشواطئ الأوكرانية. وفي نهاية المطاف، ونتيجة القصف المُركّز على جزيرة الأفعى، انسحبت القوات الروسية من الجزيرة.
التطور الآخر المهم حدث في الأسبوعين الأخيرين، حيث قصفت القوات الأوكرانية مطارات وقواعد عسكرية روسية في شبه جزيرة القرم، وحرّرت أجزاء من شمال خيرسون انطلاقًا من ميكولايف. وشنّت تلك القوات يوم 29 الشهر الماضي (أغسطس/ آب) هجومًا مضادًا هدفه تحرير مقاطعة خيرسون. ترافق ذلك مع تصريحات الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، التي خاطب فيها شعبه بمناسبة عيد الاستقلال، وعدهم فيها باستعادة شبه جزيرة القرم وكامل الأراضي الأوكرانية المحتلة. وفي الجنوب، أدّى صمود ميكولايف إلى البدء بهجوم مضاد في إقليم زابوريجيا، حيث تقع محطة توليد الطاقة الكهربائية النووية الأكبر في أوروبا محاولةً لاستعادتها.
تدور أحاديث كثيرة في كييف عن ضعف القوات الروسية المهاجمة، وتوقفها في مواقعها منذ أكثر من شهر، بل يتحدّث المواطنون الأوكرانيون عن هزيمة روسية قادمة. ستُسجل مدينة ميكولايف الاستراتيجية ومقاطعتها كإحدى المدن البطلة لدى الشعب الأوكراني، فقد حوصرت المدينة في بداية الحرب، وكادت أن تسقط، ولو سقطت لأخذت معها مدينة أوديسّا، صاحبة أهم الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود. وبسقوطها لعُزلت أوكرانيا عن العالم، وفقدت كل موانئها. لكن بسالة المدافعين عن ميكولايف غيّرت قدر أوديسا، حيث أصبحت معركة ميكولايف نقطة تحوّل في المعارك، ومن يومها تغيرت الاستراتيجية العسكرية الروسية وانكفأت نحو الشرق في إقليم دونباس وجواره.
نتيجة المقاومة الشديدة والتدخل العسكري الأوكراني في الوقت المناسب، ظلّ العلم الأوكراني مرفوعاً في ميكولايف
صرّح قائد الدفاع عن ميكولايف الجنرال دميتريو مارمينكو: "بعد احتلال خيرسون التي سقطت بسهولة في الأيام الأولى من الغزو الشامل، حوّلت روسيا بصرها نحو ميكولايف، مركز بناء السفن الأوكراني. وتوقع كثيرون أن تسقط العاصمة الإقليمية التي عدد سكانها 480 ألف نسمة بعد ذلك. في 25 فبراير/ شباط 2022، أي بعد يوم من بدء روسيا غزوها وهجومها الجنوبي، أُرسلتُ إلى موطني الأصلي وكُلفتُ بالدفاع عن ميكولايف، وبقيت مسؤولاً عن الدفاع عن هذه المدينة الرئيسة منذ ذلك الحين". ويُضيف مارمينكو في مقابلته مع صحيفة كييف إندبندنت: "عندما وصلت إلى ميكولايف، لم تكن هناك نقاط تفتيش ولا خنادق [...] لو لم تتخذ خطوات سرعة في الأيام الأولى، لكان مصير خيرسون ينتظر ميكولايف".
وفقاً للجنرال، على الرغم من عدم استعداد المدينة جيداً للحرب، لكنّ السكان كانوا على استعداد للتصرّف بسرعة: "كنتُ سعيدًا جدًا لرؤية السكان المحليين يتشاركون أدواتهم مع جنودنا في حفر الخنادق، بل يساعدونهم حتى". وفي حديثه مع الصحيفة عن مجريات المعركة في أوائل مارس/ آذار قال مارمينكو: "قابل السكان المحليون الغزاة بمقاومة شرسة، وأحرقوا معدّاتهم، واستولوا على المركبات المدرّعة، بل وتمكّنوا من أسرِ بعض جنودهم". نتيجة المقاومة الشديدة والتدخل العسكري الأوكراني في الوقت المناسب، ظلّ العلم الأوكراني مرفوعاً في المدينة. في الوقت نفسه، تمكّنت القوات الأوكرانية تحت قيادة مارمينكو من طرد الروس من ضواحي ميكولايف. أهم المهارات التي تعلمها الجيش الأوكراني منذ بدء الحرب في عام 2014، بحسب مارمينكو، تتمثل في عدم الذعر عند مواجهة العدو (المتفوّق عسكرياً)، مُشيراً إلى كيفية إنشاء الجيش الأوكراني من الصفر تقريباً خلال المراحل الأولى من الغزو الروسي.
من أجل الانتصار في الحرب، ما زالت أوكرانيا بحاجة لعشرات المعارك الشبيهة بميكولايف
على الرغم من استراتيجية أوكرانيا الدفاعية الناجحة في ميكولايف، ظلت انتصارات البلاد في الجنوب مقتصرةً، في الغالب، على منطقة ميكولايف، إذ بدأت القوات الأوكرانية ببطء فقط في التقدّم نحو خيرسون المحتلة في يوليو/ تموز الماضي. يقول مارمينكو بهذا الخصوص: "عندما طردنا الروس من ضواحي ميكولايف، كان من المستحيل بالنسبة لنا التحرّك نحو خيرسون، لأننا لم نكن نملك القوة والمعدّات العسكرية المناسبة للقيام بذلك". لكن، في 10 يوليو/ تموز، أعلن وزير الدفاع الأوكراني، أولكسي ريزنيكوف، أن الرئيس زيلينسكي أمر الجيش بتحرير جنوب البلاد بأكمله.
هل ستتمكّن القوات الأوكرانية من تحرير خيرسون؟ تلك مسألة تعتمد على الدروس المستفادة من الحرب ونوعية السلاح الغربي والأميركي الذي وصل إلى الجيش الاوكراني، وكذلك على الروح المعنوية والقتالية لدى الجنود الروس، فبين تقديرات العقيد الأميركي دوغلاس والرئيس زيلينسكي، ثمّة بونٌ شاسعٌ من النقيض إلى النقيض، لكن المؤكّد أن ميكولايف تسبّبت بعقدة عسكرية للجيش الروسي، فما بعد معركتها ليس كما قبلها. علق حاكم ميكولايف، فيتالي كيم، على النصر السابق للقوات الأوكرانية في معركة ميكولايف بالقول: "انتصرنا في المعركة، لكن هذا لا يعني أننا انتصرنا في الحرب". من أجل الانتصار في الحرب، ما زالت أوكرانيا بحاجة لعشرات المعارك الشبيهة بميكولايف، لكن هل ثمّة ميكولايف أخرى؟ سؤالٌ ستجيبُ عنه ساحات المعارك.