روسيا في سورية بعيون غربية .. "واجب التدخل" لحماية نظام يقتل شعبه
إذا كان هناك مآخذ على الغرب بسبب سياساته الانتقائية وتصرفاته وفق منطق ازدواجية المعايير في التعامل مع المشكلات والأزمات الدولية، فإن أسباب المآخذ على روسيا تتمثل في انقلابها الكليّ على المعايير، وفق ما تظهره ليس حربها ضد أوكرانيا وحسب، بل قبل ذلك سياستها بشأن سورية منذ العام 2011 أيضاً. هذا التصرّف يعرّضها لنقد لاذع في الأوساط الفكرية والأكاديمية العالمية، سيما في الغرب، حيث تبقى الحريات الأكاديمية ميزة، قد يتجرأ بعضهم على إساءة استخدامها، لكن أحدا لا يستطيع انتهاكها.
الدبلوماسية الروسية لم تعش، على غرار الدبلوماسيات الغربية، الهاجس الأخلاقي بشأن ما يسمّى "واجب التدخل". بينما احتاج السوريون لتدخل دولي لحمايتهم من آلة قمع مروّعة قضت على ثورتهم وطموحهم بالتغيير السياسي الديمقراطي، فإن النظام الاستبدادي هو الذي حَظِيَ، أولاً، بـ"درع حماية دبلوماسية"، على حد تعبير المدرّس في جامعة أكسفورد، روي أليسون (Roy Allison)، في مقالة بعنوان "Russia And Syria: Explaining Alignment With a Regime In Crisis"، نشرتها مجلة International Affairs، في 2013. ثم نَعِمَ بحماية عسكرية تالياً. في سورية، لم تطرح روسيا على نفسها ذلك السؤال المحوري في فلسفة العلاقات الدولية، بحسب الباحث الفرنسي، فريدريك راميل (Frédéric Ramel)، حول ما إذا كان يتوجب، من الناحية الأخلاقية، القيام بتدخل عسكري خارجي من أجل حماية سكان بلد ما من القمع والتنكيل على يد النظام الاستبدادي الحاكم في هذا البلد؟ [1]على العكس، بدت وكأنها تروّج، بالأفعال، ما لم يكن بالأقوال، لمقولة أخرى أو بالأحرى لواجب آخر: واجب التدخل لحماية نظامٍ يقمع شعبه وينكّل به.
تضطلع روسيا، من دون أي تردّد، بهذا النسف الواضح لأهداف القانون الإنساني الدولي، من خلال دعمها لنظام بشار الأسد وحمايته له في مجلس الأمن منذ العام 2011، ثم من خلال تدخلها العسكري المباشر في الحرب السورية منذ 2015، والذي يدخل عامه الثامن في الشهر المقبل (سبتمبر/ أيلول)
أحكام تخفيفية؟
للوهلة الأولى، تبدو بعض التفسيرات الغربية للتصرف الروسي وكأنها أحكام تخفيفية أو محاولة تنمّ عن تفهّم ما له، من دون أن يعني ذلك مصادقةً عليه، فيُقال مثلاً إن ما قامت به موسكو في سورية يندرج عموماً في خانة عقيدتها المناقضة لما تعتبره "تدخلا دوليا" في الشؤون الداخلية للبلدان، كما يذكر الباحثان، جيل أندرياني (Gilles Andréani)، وبيار هاسنر(Pierre Hasner)، في كتابهما "Justifier la guerre?)، الصادر في باريس سنة 2013. بمعنى آخر، هو ردّ على سياسة "تغيير النظام" التي طبقتها واشنطن وحلفاؤها الأوروبيين في ليبيا سنة 2011، كما يعود ويشير أليسون. حينها، شعرت موسكو بـ"خيانة" الغربيين لها، بحسب وصْف الباحث ديديي بيليون (Didier Billion)، في كتاب له عن "جيوبوليتيك العالم العربي"، الصادر بالفرنسية في باريس سنة 2018. أما الذريعة التي استندت إليها فتتمثل بالالتفاف الغربي على القرار 1973 الصادر عن مجلس الأمن، وأسقطوا النظام الليبي من دون تفويض أممي، وفق ما يشير إليه الدبلوماسي والباحث الفرنسي، شارل تيبو (Charles Thépaut)، في كتابه الصادر في باريس سنة 2017، بعنوان "Le monde arabe en morceaux. Des printemps arabes à Daëch".
حماية النظام ثم منع سقوطه في 2015، يرتبطان أولاً بالطموح التاريخي للوصول إلى البحار الدافئة، وثانياً بمصالح موسكو النفطية والغازية
تعطي تبريراتٌ كهذه انطباعاً بأن روسيا هي الحريصة على المعايير الدولية. ولكن هل أنّ قطْع الطريق على فكرة إسقاط النظام السوري، بواسطة تدخل غربي، يبرّر امتناع روسيا عن القيام بأي فعل من شأنه ردع هذا النظام عن ارتكاب الجرائم والمجازر بحق شعبه، وتهجيره؟ ناهيك بالامتناع عن أي إجراء يهدف إلى معاقبته على أفعاله؟ يتعلق الأمر إذاً بـ"سقطةٍ" أخلاقية لا يمكن تبريرها بحسابات جيوسياسية، كالقول مثلاً، بحسب المؤرّخ والجامعي الروسي المقيم في باريس منذ 1990، أندريه غراتشيف (Andreï Gratchev)، إن روسيا أرادت أن تكون ذلك اللاعب العازم على مواجهة "النظام الدولي الذي فرضه الغربيون"[2]، عبر ما يسمّى "محور الرفض: رفض الغرب"، وفق تعبير رئيس تحرير مجلة "Politique étrangère"، دومينيك دافيد (Dominique David)، في مقالة له عنوانها (Vivre avec la Russie)، نشرها في المجلة نفسها، ربيع 2017. وتلك السقطة لا يمكن السكوت عنها بمجرّد أن ما فعلته روسيا يندرج في إطار الانتقام الاستراتيجي من الغربيين بسبب تجاهلهم لها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، على حد توصيف الباحثين الفرنسيين، أوبير فيدرين (Hubert Védrine)، وباسكال بونيفاس (Pascal Boniface)، في أطلسهما عن الأزمات والصراعات في العالم، الصادر في باريس سنة 2016. حتى الحديث عن أهدافها المتمثلة في "منع الجماعات الجهادية السورية والعراقية من الانتشار" في مناطقها التي تضم مسلمين، كما يقول وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، في كتابه (World Order)، الصادر في نيويورك سنة 2016، أو حتى الإشارة إلى غاية روسيا تتمثل في "حماية المؤسسات الدولتية السورية"، كما يفعل الباحث جيل كيبيل (Gilles Kepel)، في كتاب بعنوان (Sortir du Chaos. Les crises en Méditerranée et au Moyen-Orient)، الذي صدر في باريس سنة 2018، لا يُراد منهما تبرير التغطية الروسية لجرائم النظام السوري. وهذا ما دفع المحللين إلى بناء سردية مختلفة للدور الروسي في سورية. سردية لا تحتكم فقط لمنطق التحليل الواقعي (غير التبريري) في العلاقات الدولية، بل للمنطق الأخلاقي.
لاعب متمرّس بالحروب القذرة
هكذا، بدأ توجيه الاتهام لروسيا بأن حساباتها غير مستقيمة، غير أخلاقية، وتفتقد للواقعية، فضلاً عن أنها تدعم نظام تُدينه محكمة التاريخ؛ إذا كان هناك إقرار بأن روسيا "تعرضت للإهانة" في البلقان (خلال حرب كوسوفو سنة 1999)، وفي ليبيا سنة 2011، إلا أن هذا لا يبرر لها أن تستخدم قدرتها على "إلحاق الضرر" وأن تكون "سعيدة" بمنع مجلس الأمن من إدانة مجازر النظام السوري، بحسب ملاحظات وانتقادات الباحث دومينيك مويزي (Dominique Moïsi)، في مقالات له في صحيفة "ليزيكو" الفرنسية (Les Echos)، عاد ونشرها في كتاب بعنوان (Le nouveau déséquilibre du monde) سنة 2017.
تواجه روسيا معضلةً في سورية نتيجة عجزها عن حل الصراع السوري، من دون التفاوض مع الغربيين
المقاربة الغربية للسياسة الروسية حيال سورية لا تتجاهل أن حماية النظام ثم منع سقوطه في العام 2015، يرتبطان أولاً بالطموح التاريخي للوصول إلى البحار الدافئة، وثانياً بمصالح موسكو النفطية والغازية. هذان الدافعان كانا يتطلّبان أن تحافظ روسيا على موطئ قدم لها في منطقة البحر المتوسط، مع ما يتيحه لها ذلك من تعزيز قدرتها على التحكّم بطرق إمدادات مصادر الطاقة من الشرق الأوسط إلى أوروبا. لكن تحقيق مُرادها كان مكلفاً على صعيد سمعتها أو صورتها في العالم، لأن اسم روسيا بات يرمز إلى لاعبٍ لديه "تجربة في (خوض) الحروب القذرة"، التي جرى اختبارها في الشيشان وتطبيقها من جديد في سورية، على حد تعبير وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، دومينيك دوفيلبان، صاحب الخطاب الشهير في مجلس الأمن ضد التدخل العسكري الأميركي في العراق في العام 2003، وذلك في كتاب مذكّراته "Mémoire de paix pour temps de guerre"، الصادرة في باريس سنة 2016.
المعضلة الروسية
بالطبع، كانت حسابات الرئيس الروسي بوتين أبعد من مجرّد التفكير بهاجس حماية صورة روسيا من التشويه. كان "استعراضه القوة" في سورية يهدف، بحسب ما ورد في مقالة للكاتب الروسي فيودور لوكيانوف في مجلة "Foreign Affaires" سنة 2016، إلى جرّ الغربيين إلى التفاوض معه على قدم من المساواة[3]. كذلك، أراد الرئيس الروسي أن يقول لهؤلاء إن من غير الممكن حل أي مشكلة في الشرق الأوسط "إذا تم استبعاد روسيا"[4]، وفق تأكيد الباحثة الروسية إكاترينا ستيبانوفا، في مقالة لها نشرتها مجلة "Politique étrangère" سنة 2016 أيضاً. بيد أن حسابات الحقل ليست كحسابات البيدر. وسرعان ما بدأت روسيا تصطدم بمحدودية انتصاراتها في سورية، على الرغم من نجاحها في حماية نظام الأسد أو في تحقيق أهداف الإستراتيجية الأخرى. في الواقع، لقد انقلب السحر على الساحر. هذا ما تظهره عملية الرصد والتحليل التي يقوم بها باحثون غربيون، لأن روسيا باتت تواجه معضلةً في سورية نتيجة عجزها هي عن حل الصراع السوري، من دون التفاوض مع الغربيين، ونتيجة حاجتها للتوافق مع كل اللاعبين الإقليميين والدوليين المؤثرين في هذا الصراع، والذين لديهم مصالح وأهداف لا يمكن التوفيق في ما بينها، لا سيما إيران وتركيا وإسرائيل، كما يعود ويكتب جيل كيبيل في كتابه.
انفتاح موسكو على جميع اللاعبين المعنيين بهذه الأزمة لم يؤد إلى تخليها عن تقاربها الحيوي مع طهران
أكثر من ذلك، ظهور روسيا بمظهر اللاعب العاجز أمام الغربيين في سورية عندما ينوي هؤلاء القيام بعمل حازم هناك، ساهم في كسر صورتها أمام العالم. حصل ذلك في شهر أبريل/ نيسان 2018، حين نفذت القوات الأميركية، بالاشتراك مع القوات البريطانية والفرنسية، هجوماً صاروخياً ضد جيش النظام السوري، إثر هجمات كيماوية في مدينة دوما في منطقة الغوطة الشرقية. لم يكن هدف الغربيين معاقبة نظام الأسد وحده في هذه العملية العسكرية، بل أرادوا أيضاً إفهام روسيا بأنها "ليست القوة الوحيدة التي تتحكم بتطوّر الوضع الميداني" السوري[5]، بحسب ما ورد في مقالة في مجلة "لوموند ديبلوماتيك"، سنة 2018، للأكاديمي الروسي، العامل في مؤسسات بحثية دولية وغربية عدة، نيكولاي كوزانوفا. هذه الضربة فاقمت من المعضلة الروسية. فهي بدت عاجزة عن حماية النظام السوري، عندما قرّر الأميركيون التحرّك، وأعطت مؤشّرا على عدم رغبتها بحصول أي تصعيد باتجاه تدويل الصراع السوري، لأن "لديها الكثير لتخسره"، وفي الوقت نفسه، هي غير قادرة على الانسحاب من سورية من دون أن يتسبّب ذلك بإساءة لهيبتها أمام الرأي العام الروسي والعالمي، بحسب ما يلاحظ كل من الجامعي والباحث في معهد العلاقات الدولية في براغ، إميل سليمانوف (Emil A. Souleimanov)، الباحث في جامعة Kansas في الولايات المتحدة، فاليري دزوتساتي (Valery Dzutsati)، في مقالة لهما نشرتها مجلة "Middle East Policy"، سنة 2018، بعنوان (Russia's Syria War: A Strategic Trap?).
أضرار معنوية
للتخفيف من وقْع هذه المعضلة ولتجنّب الأسوأ، تمسّكت روسيا أكثر فأكثر بتحالفها مع إيران في سورية، حتى لو أدى ذلك إلى إطالة أمد الأزمة، فانفتاح موسكو على جميع اللاعبين المعنيين بهذه الأزمة لم يؤد إلى تخليها عن تقاربها الحيوي مع طهران، بحسب توصيف الباحثة في معهد واشنطن، آنا بورشيفسكايا، في مقالة لها نشرتها مجلة "Middle East Quarterly"، سنة 2018، تحت عنوان "Moscow's Middle East Resurgence Russia's Goals Go Beyond Damascus".
خيّبت موسكو آمال كل من كان يتوقع أنها مستعدّة يوماً ما للتضحية برأس النظام، أي ببشار الأسد، بعد ضمان مصالحها
كذلك، خيّبت موسكو آمال كل من كان يتوقع أنها مستعدّة يوماً ما للتضحية برأس النظام، أي ببشار الأسد، بعد ضمان مصالحها. على العكس، صدقت التقديرات أن القوات الروسية فعلت كل شيء من أجل تحقيق هدفين: جعل الواقع غير ملائم بالمطلق للمعارضة المسلحة السورية، وتجنّب أي حل سياسي من دون الأسد، أي قطع الطريق على الحل الذي يريده الغربيون، كما يقول الباحث سفانت كورنيل (Cornell Svante E.)، في مقالة له بعنوان "The Fallacy of 'Compartmentalisation': The West and Russia from Ukraine to Syria)، نشرتها مجلة "European View"، سنة 2016. ولهذا التصرّف تفسير مفاده بأن حماية الأسد تعني حماية روسيا (وفق المنظور الجيوسياسي)، على حد تعبير بورشيفسكايا. لكن من شأن هذا الخيار الذي يكرّس معادلة الإجرام بحق الشعب السوري والإفلات من العقاب، أن يشوّه أكثر فأكثر سمعة روسيا دولياً. بمعنى آخر، كل مكسب مادّي حققته روسيا بفضل سياستها هذه، يقابله ضرر معنوي لا يمكن تجاهله.
في المحصلة، يَعتبر بعضهم أن التحليلات السياسية للدور الروسي في سورية، وتتداولها أوساط ومؤسسات أكاديمية وبحثية غربية، تفتقد للموضوعية بمجرّد أنها غربية. لكن هذه التحليلات لا تتعامل بمنطق نقدي مع هذا الدور حصرياً، بل هي لا ترحم أدوار الدول الغربية وتصرفاتها نفسها، التي يحفل تاريخها بالأخطاء والارتكابات. وعليه، تبقى الحقيقة أن قراءة السياسة الروسية في سورية، من منظور أكاديمي، تؤدّي إلى تعريتها، ونزع مصداقية روسيا على الساحة الدولية، فهي تزعم أنها تتدخل عسكرياً في أوكرانيا "لحماية" السكان في شرق هذا البلد، بينما تدافع عن نظام اضطهد ولا يزال يضطهد شعبه، وارتكب واحدةً من أكبر الجرائم في التاريخ. وهي بذلك تضرب بعرض الحائط كل المعايير الدولية والقانون الإنساني الدولي.
[1] Frédéric Ramel, Attraction mondiale, Paris, Presses de Sciences Po, 2012, p.. 22.
[2] Andreï Gratchev « La Russie à la recherche de sa grandeur perdue », In Bertrand Badie, Dominique Vidal (dir.), Qui gouverne le monde. L'état du monde 2017, Paris, La Découverte, 2016, pp. 214-223., p. 215.
[3] Fyodor Lukyanov, “Putin’s Foreign Policy. The Quest to Restore Russia’s Rightful Place”, Foreign Affaires, May-June 2016, 95(3), pp.30-37.
[4] Ekaterina Stepanova, « La Russie a-t-elle une grande stratégie au Moyen-Orient », Politique Étrangère, 2016/2 (Été), pp. 23-35.
[5] Nikolaï Kožhanov, « Que cherche la Russie au Proche-Orient ? Succès militaires, casse-tête géopolitique », Le Monde Diplomatique, Mai 2018, pp. 4-5.