رهان البرهان وعودة السودان إلى الاتحاد الأفريقي
حين وقف رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، في قمّة بكين للتعاون الاقتصادي الصيني/ الأفريقي (سبتمبر/ أيلول 2024)، مناشداً القادة الأفارقة العمل على إعادة السودان إلى موقعه الفاعل في الاتحاد الأفريقي، كان يستدعي تاريخاً سودانياً من الفعل والدبلوماسية التي أسهمت في تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية في مايو/ أيار 1963، قبل أن تتحوّل إلى الاتحاد الأفريقي في يوليو/ تموز 2002.
كان البرهان يُدرك الفرق بين زمن الحضور السوداني المؤثر ثقافياً وسياسياً ودبلوماسياً في محيطه الجغرافي الحيوي، وعلى امتداد القارّة الافريقية ومآلات الوضع الراهن، ووقف في قمّة بكين ليؤكد أنه يخوض حرباً للحفاظ على الدولة السودانية التي تسبق في الأهمية والوجود وصفها ديمقراطية أو غيرها. وأعلن ضرورة العمل على عودة السودان إلى موقعه الشاغر في الاتحاد الأفريقي.
وفي يونيو/ حزيران 2019، أعلن الاتحاد الأفريقي تعليق عضوية السودان في جميع أنشطة الاتحاد، بعد تصاعد أعمال العنف والاحتجاجات التي طالبت بتغيير نظام الحكم في البلاد، ورهن الاتحاد عودة السودان الى مقعده بتشكيل مجلس انتقالي يقوده "مدنيون". وقد جاء تجميد عضوية السودان في أعقاب حادثة فضّ الاعتصام المدني أمام مقر قيادة الجيش في 3 يونيو/ حزيران 2019، ولم يأتِ نتيجة انقلاب اللجنة الأمنية على حكومة عمر البشير، أو بعد انحياز المؤسّسة العسكرية للاحتجاجات الشعبية التي اعتصمت في محيط القيادة.
لو أن الاتحاد أراد أن يبني قراراته على قراءة مستبصرة للواقع، لأرسل لجنة تقصّي حقائق للإمساك بالأبعاد المتوارية للنزاعات السلطوية "غير التأسيسية" لقوى الانتقال
وبعد أن امتثلت قيادة الجيش لصوت الحوار وإنجاز مشروع الوثيقة الدستورية الموقّعة في فندق كورنثيا في 4 أغسطس/ آب 2019، حدّدت الوثيقة هياكل الحكم المختلط بين العسكريين والمدنيين بنسب تراضت عليها القوى السياسية المنضوية تحت "قوى الحرية والتغيير"، وخرجت الوثيقة الحاكمة للفترة الانتقالية تنصّ على تشكيل مجلس انتقالي بعضوية خمسة أعضاء مدنيين وخمسة عسكريين وواحد مدني يجري التوافق على اختياره بين الطرفين، وتكوين مجلس تشريعي 67% من أعضائه من القوى المدنية، يكون بمثابة برلمان الانتقال، ووضعت ترتيبات دستورية لاستعادة المحكمة الدستورية وضمان استقلالية القضاء.
وألغى الاتحاد الأفريقي في سبتمبر/ أيلول 2019 تجميد عضوية السودان في أعقاب إعلان الخرطوم تشكيل أول حكومة انتقالية، حيث شارك الاتحاد الأفريقي نفسه في صياغة الوثيقة الدستورية، واعتُمِدَت داخل نظم الاتحاد الأفريقي تحت مسمّى "الوثيقة المنظمة لعمل الفترة الانتقالية"، وصولاً إلى انتخابات ديمقراطية، رُفع التجميد على أساس أن الشراكة العسكرية - المدنية منحت البلاد شرعية دستورية تلغي الوضع السابق. وتعثّرت الشراكة العسكرية المدنية المرعية إقليمياً ودوليّاً حتى توقفت بصورة نهائية في أعقاب الاعتصام أمام القصر الجمهوري وانسداد الأفق السياسي الداخلي في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، واحتدام الصراع الصفري بين جانب من قوى سلام جوبا والقوى الحزبية المشكلة تحالف الحرية والتغيير.
وبعد أن حلّ الرئيس البرهان مجلس السيادة في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 باستثناء الأطراف المشاركة من قوى سلام جوبا، وحلّ الحكومة الانتقالية وتعطيل بعض المواد في الوثيقة الدستورية، أعلن الاتحاد الأفريقي تجميد مشاركة السودان في جميع أنشطته، مع إدانة ما أسماها "سيطرة الجيش على السلطة وتغيير الحكومة غير الدستوري"، واعتباره "أمراً غير مقبول"، و"إهانة للقيم المشتركة والمعايير الديمقراطية للاتحاد الأفريقي"، مبرّراً موقف تعليق العضوية بأنه قد استند إلى "الميثاق الأفريقي حول الديمقراطية والانتخابات والحكم، المعتمد من رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأفريقي بأديس أبابا في 30 يناير/ كانون الثاني 2007. في مادته التي تنصّ على "فرض مجلس السلم والأمن الأفريقي عقوبة على دولة عضو في الاتحاد عندما يلاحظ وجود تغيير غير دستوري لحكومة دولة طرف في الاتحاد وتفشل المبادرات الدبلوماسية". وهنا أجحف الاتحاد في حق لائحته الحاكمة قبل إجحافه في حق الشعب السوداني، إذ سارع إلى تعليق العضوية من غير السعي لحل الأزمة عبر القنوات الدبلوماسية التي حدّدها ميثاقه. كما فعل الاتحاد ذلك من دون أن يضع تعريفاً محكماً حول متى تتصف الأنظمة بالديموقراطية، وهل الانتقال إلى الديمقراطية يشترط فيه أن يكون ديموقراطياً مدنيّاً؟ أم أن لكل دولة مساراتها المناسبة النابعة من طبيعتها والمتسقة مع خبرتها؟ ألم يقفز الاتحاد الأفريقي على الواقع السوداني المعقّد بسبب اختلاف قوى الثورة حول أولويات قضايا الانتقال ونكوص نخب "الحرية والتغيير" عن الوفاء بالتزاماتها حيال استكمال هياكل السلطة الانتقالية؟ وهل تورّط الاتحاد من حيث لم يدرِ في تمكين قوى ثورية تسعى للسلطة دون الحصول على التفويض الشعبي وفق آلية الانتخابات؟
لم تكتفِ بعض القوى التي تتشح بـ"ثوب المدنية" بالمساهمة في إشعال الحرب، لكنها مضت إلى تقويض الدبلوماسية الرسمية للدولة
وهل تُعرّف قضايا الثورة ومتطلباتها على حسب اشتراطات الفاعلين السياسيين وتقديراتهم، أم من خلال مصفوفة الاستحقاقات والاجراءات والمفاهيم؟ ألا يعني منع العسكريين من ممارسة الحكم في طور الانتقال بحجة عدم توافر شرعية التأهل والتخصص أن يمتدّ هذا المنع للقوى السياسية المدنية بحجّة عدم حصولها على شرعية التفويض الشعبي؟ وإذا اعتبر الحراك الجماهيري بمثابة تفويض شعبي، ألم تتخلَّ القوى الحزبية عن كثير من مطالب الجماهير كما كانت تشير المظاهرات التي تسيّرها بعض القوى الشبابية "الجذرية"، والتي كانت تغلق في وجوهها الشوارع والجسور بالحاويات في ظل حكومة حمدوك؟
... لم يشأ الاتحاد الأفريقي أن يفكّ تجميد عضوية السودان، حتى بعد أن أجرى مجلس السيادة برئاسة البرهان توافقاً مع رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني2021، على إثره عاد حمدوك إلى منصبه في ظل البنود المجمدة من الوثيقة الدستورية، ما يؤكّد أن التعديلات في الوثيقة لم تكن عقبة في مسار الانتقال الديمقراطي المدني، بقدر ما كانت تصحيحاً له. ومن المفارقات أنه برغم عودة رئيس الوزراء المدني، لم يرفع الاتحاد الأفريقي تجميد عضوية السودان. وفي خطوة مفاجئة، أعلن الرئيس حمدوك استقالته في الثاني من يناير/ كانون الثاني 2022، بحجّة أن الشراكة التي انعقدت في أعقاب انتفاضة ديسمبر (2019) كانت مع قاعدة سياسية تمثلها قوى الحرية والتغيير، وقد أسهمت استقالته في زيادة تعقد مسار الانتقال.
ويبدو أن الاتحاد الأفريقي يصدر تقديراته حيال الأوضاع السودانية لتأييد قوىً بعينها، ويدور مع مواقفها المعلنة وجوداً وعدماً، وإلا فإن حدث 25 أكتوبر (2021) لا ينطبق عليه وصف الانقلاب، فما حدث، بحسب خبراء، هو مفاصلة بين العسكريين والمدنيين، وقد جرت في تاريخ السودان بين الرئيس جعفر نميري والشيوعيين، ثم بين نميري والإسلاميين آخر عهده. وقد جرت بصورة أوضح بين الرئيس عمر البشير والأمين العام لحزب المؤتمر الوطني حسن الترابي في عام 1999 في ما عُرف بقرارات الرابع من رمضان.
يبدو أن الاتحاد الأفريقي يصدر تقديراته حيال الأوضاع السودانية لتأييد قوىً بعينها، ويدور مع مواقفها المعلنة وجوداً وعدماً
وإذا ارتأى الاتحاد الأفريقي وارتضى موقف الفاعلين السياسيين وحدهم محدّداً أوحد، لإعلان موقفه من الحكومة، وقرّر، بناءً على ذلك، نزع شرعيته عن النظام القائم، فلماذا لم يقف على الانقسام الهائل داخل معسكر الثورة نفسها، ووصم أطرافاً مؤثرة في المشهد السياسي لتحالف قوى الحرية والتغيير "بالاستبداد المدني" والاستئثار "بالسلطة المدنية"، و"احتكار القرار في شريحة محدودة"، من دون الطيف الثوري الواسع؟ ولو أن الاتحاد أراد أن يبني قراراته على قراءة مستبصرة للواقع، لأرسل لجنة تقصّي حقائق للإمساك بالأبعاد المتوارية للنزاعات السلطوية "غير التأسيسية" لقوى الانتقال.
وبموجب النقد السياسي وخطاب القوى الثورية المضادّة لتشكيلات "الحرية والتغيير"، فإن أطرافاً كثيرة داخل معسكر الثورة ألقت باللائمة على الحرية والتغيير (مجموعة الأربعة) في تخليها عن واجبها حيال استكمال هياكل الحكم الديمقراطي، سيما تكوين "المجلس التشريعي الثوري"، والاكتفاء بممارسة التخدير الثوري عبر "بروباغندا تفكيك تمكين نظام الإنقاذ" خارج دائرة القضاء واللعب على أوتار التناقضات، سيما "المكوّن الأمني"، وزرع "الفتنة" بين قوى عنف الدولة (الجيش والدعم السريع) التي قادت البلاد إلى الحرب المستعرة منذ 15 إبريل/ نيسان 2023.
لم تكتفِ بعض القوى التي تتشح بـ"ثوب المدنية" بالمساهمة في إشعال الحرب، لكنها مضت إلى تقويض الدبلوماسية الرسمية للدولة، حتى في ظل الأوضاع المعقدة التي تمرّ فيها البلاد ويكفي البيان الذي أصدرته تنسيقية "تقدّم" ردّاً على البيان الختامي لاجتماع مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي رقم 1218 بشأن السودان، الذي انعقد الجمعة (21 يونيو/ حزيران 2024)، في العاصمة الأوغندية كمبالا، ودعوتها الاتحاد الأفريقي إلى عدم التراجع عن تعليق عضوية السودان، بسبب "غياب وجود سلطة شرعية فيه" وقولها: "قد عمقت الحرب من أزمة المشروعية، ولا يجب مكافأة أي من أطرافها بمنحه شرعية لم يمنحها إياه الشعب السوداني المكتوي بنيران الحرب".
بالنظر إلى التغيرات التي جرت جرّاء الحرب، يصبح إلغاء تجميد العضوية أقل ما يمكن أن يقدّمه الاتحاد الأفريقي إلى الشعب السوداني
ولم يزل الاتحاد الأفريقي ممتثلاً للقوى الحزبية نفسها التي قادت السودان إلى درك سحيق من الفوضى: أولاً، بسبب تغليبها الحظ السلطوي على الشاغل التأسيسي، وثانياً، لافتقارها إلى الحكمة التي توجب التنازل والمضي في مهام تأسيس النظام السياسي بشقّيه، الديمقراطي والفيدرالي، وثالثًا، بسبب تورّطها في دعم مشروع "استتباع الدولة لمحاور إقليمية"، وإعادة هندسة "قوى عنفها" لشروط ومقررات أمن قومي خارجي.
وكما استندت القوى نفسها في مراحل تاريخية مختلفة لبندقية الحركة الشعبية (لتحرير السودان)، وارتضت أن تشارك النظام نفسه الذي حاربته سنين عدة تحت مظلة اتفاقية نيفاشا، فها هي تنضوي تحت رهانات "الدعم السريع" بحجج القضاء على "القوة الصلبة للإسلاميين"، وتبنّي الرؤية نفسها والرواية المنتجة ضمن سردية قوات الدعم السريع وداعمها الإقليمي.
بموازاة ما تبذله الدبلوماسية الرئاسية للدولة السودانية بقيادة البرهان، فإن مساعي التقويض والهدم التي تمارسها المحاور الإقليمية تقف ضد إنجاح استعادة السودان مقعده الشاغر في الاتحاد الأفريقي. ومع ذلك، وبالنظر إلى التغيرات التي جرت جرّاء الحرب، يصبح إلغاء تجميد العضوية أقلّ ما يمكن أن يقدّمه الاتحاد الأفريقي إلى الشعب السوداني، معتذراً عن سوء تقديره، حيال قرار تعليق عضوية السودان.