رمضان في إذاعة دمشق
منذ خمسينيات القرن الفائت، صار عندنا تلازم بين شهر رمضان والإذاعة. كانت البرامج الاعتيادية تُنجز، ضمن ما تُسمّى "الدورة الإذاعية"، ومدتها ثلاثة أشهر، بمعنى أن السنة تتسع لأربع دورات، وأما شهر رمضان فكانوا يخصّصون له دورة خاصة، استثنائية، تتضمّن أغاني وموشّحات تقدّمها فرق الإنشاد الديني في الإذاعة، بقيادة توفيق المنجد، أو حمزة شكور، وبعض الأحاديث الرمضانية، بصوت مروان شيخو الذي كان يجيب، كذلك، على رسائل المستمعين التي يتساءلون فيها عن أحكام الصيام والعبادات الأخرى، بالإضافة إلى فقراتٍ تمثيلية كوميدية، كان يكتبها القصّاص الشعبي حكمت محسن، موضوعاتُها الأساسية مشكلات الحماة والكنّة، والجيران، وأهل الحارة، وأهل السوق، وزبائن المقهى، والفقر والتعتير، وغدر الأصحاب، وقصص الظرفاء، وأصحاب الدم الثقيل. وتتضمّن الفقرة الإذاعية، أحيانا، ما يجري في السحور، مع صوت المسحّر يقرع طبلته وينشد "يا نايم وحد الدايم"، بالإضافة إلى رصد تفاصيل "السكبة"، وهي أن "تسكب" كل أسرة صحناً مما طبخت، وتُرسله سيدة البيت إلى جيرانها، قبيل الإفطار بقليل، والجيران بدورهم، يعيدون الصحن إلى الأسرة، مملوءاً، فإذا أرسلتَ إلى جيرانك صحناً من الكبّة المقلية، مثلاً، قد يرسلون إليك، عوضاً عنه، صحناً من المهلبية، أو الرز بحليب، وبعض النسوة النمّامات كنّ يسخرن من الجارة التي سكبن لها أكلة دسمة، فأرسلت عوضاً عنها "بابا غنّوج" قليلَ التكلفة!
وكان ثمّة برامج إذاعية حصلت على شعبيّة واسعة، مثل "صابر وصبرية" التي كان يكتبها وليد مارديني، ويمثلها تيسير السعدي، وهو ممثل موهوب، من أصل فلسطيني، مع صبا المحمودي. صابر رجل عصبي، نزق، بينما زوجته بطيئة الفهم، ساذجة... واشتهرت شخصيات إذاعية أخرى، كاراكترات، مثل أبو فهمي (فهد كعيكاتي)، وأم كامل (أنور البابا)، وهذا من أقارب النجمة سعاد حسني البابا، وشقيقتها نجاة حسني البابا (نجاة الصغيرة). وقد اكتشفتُ، أخيراً، أن لنجاة وسعاد شقيقاً عاش معهما في القاهرة، وهو موسيقار، اسمُه عز الدين حسني، لحّن لنجاة عدة أغان، أشهرها "على طرف جناحك يا حمام"، ولحّن لليلى مراد، وسعاد محمد، ومحمد قنديل، وهدى سلطان، ومحمد عبد المطلب.
وكانت فكرة اعتماد رجل يمثل دور امرأة، في تلك الأيام، شائعة في المسرح، ثم في الإذاعة، لأن وجود نساء يستطعن العمل في الفن، كان معضلة حقيقية عانى منها معظم الذين اشتغلوا في الفن، منذ أيام أبي خليل القباني. وهناك قصّة شهيرة بطلتُها المغنية سلوى مدحة التي كانت لها شهرة واسعة في الخمسينيات، وعندما انطلق نصيبُها، وتزوّجت، اشترط زوجها أن تترك الغناء، وتسحب تسجيلاتها من الإذاعة، فوافقت ووافق أهلها، وحينما ذهبوا إلى الإذاعة ليسحبوا الأشرطة بقصد إتلافها، اشترط عليهم مدير الإذاعة الإبقاء على قصيدة "عروس المجد"، لأنها ليست عاطفية، بل تتغنّى بالوطن... فوافقوا، وكان هذا من حسن الحظ، فلو سُحبت الأغنية وأُتلفت، لما عرف أحدٌ من الأجيال اللاحقة هذا الصوت العذب، لهذه المطربة القديرة.
كتب قصيدة "عروس المجد" عمر أبو ريشة، ولحنها العبقري صاحب الخمسة آلاف لحن، فيلمون وهبي، وهي تنتمي إلى ما يعرف باسم "أغاني التعبئة" التي يسميها الإعلام السوري "الأغاني الوطنية"، موضوعها معركة ميسلون التي وقعت يوم 24 يوليو/ تموز 1920، بين متطوّعين يقودهم وزير الحربية في حكومة الملك فيصل، والجنرال غورو الذي جاء بجيشه إلى دمشق لتنفيذ اتفاقية سايكس بيكو، ثم صدر قرار الانتداب الفرنسي على سورية عن عصبة الأمم رسمياً سنة 1922، وفيها ذلك المقطع الساحر: كَم لنا من ميسلونٍ نفضتْ/ عن جناحيها غبار التعبِ.
أخيراً؛ يُروى عن الفنان تيسير السعدي، أنه حضر لتسجيل حلقة إذاعية من تأليفه، وحضرت نجاح حفيظ التي كانت من أوائل النساء اللواتي اشتغلن في الإذاعة، وغاب الممثلون الآخرون، فقام تيسير بأدوارهم، مستخدماً أربعة أصوات دفعة واحدة!