رفع الديمقراطية على أسنّة الرماح
قال نائب رئيس مجلس السيادة (أنذاك)، قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في يونيو/ حزيران 2020: "الديمقراطية التي يتحدّثون عنها سنحقّقها نحن بالزي العسكري. سنحقّقها عنوة. سنبحث عنها حتى نحقّقها بزينا العسكري". كان حديثه، في ذلك الوقت، موجّهاً إلى القوى المدنية في تحالف إعلان الحرية والتغيير. وكان يتحدّث باسم "القوات النظامية" كافة. هدّدها بالبحث عن الديمقراطية، وجلبها. وبعد أقل من عام ونصف العام، شارك مع حليفه (آنذاك) رئيس مجلس السيادة، القائد العام للجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في الانقلاب على القوى المدنية، وقاداها إلى المعتقلات. كانت حجّة الانقلاب "تصحيح مسار الثورة السودانية". كانت تلك خطوةً نحو "تحقيق الديمقراطية عنوة".
في أغسطس/ آب 2022، أقرّ قائد الدعم السريع في مقابلة تلفزيونية بفشل الانقلاب، وبدأ الخلاف بين الشريكين العسكريين يتصاعد. جاء هذا الاعتراف عقب لقاءٍ في منزل السفير السعودي بالخرطوم، بين وفد من قوى الحرية والتغيير وأربعة من أعضاء المجلس العسكري الحاكم، بحضور مولي في، مساعدة وزير الخارجية الأميركي، التي شدّدت في هذا الاجتماع على وجوب إنهاء النزاع المدني العسكري في السودان، خشية من تصاعد نزاع عسكري عسكري، رصدت بوادرَه مخابراتٌ غربية. تحدّث قائد الدعم السريع في هذا الاجتماع عن مكيدةٍ تُدبّر له ولقواته، وعن محاولة إلصاق تهم به، ادّعى أنه بريء منها. وتقول مصادر إنه جاء الى الاجتماع تحت ضغط التهديد من أجهزة مخابرات غربية، حذّرته من أن تاريخه في الانتهاكات والعلاقة مع روسيا ومجموعة فاغنر لا يمكن التجاوز عنه. وأن عليه البحث عن مخرجٍ آمن، بدلاً من التمسّك بالطموح إلى مزيدٍ من السلطة. يبدو أن التهديدات كانت جدّية، فحاول الرجل الدفاع عن نفسه أمام مساعدة وزير الخارجية الأميركي والسفير السعودي. لكن ذلك لم يكن كافياً لتغيير صورته أمام العالم، فاندفع لتأييد الاتفاق الإطاري الممهد لتسليم السلطة للمدنيين، وطاعناً، في الوقت نفسه، في جدّية الجيش في الالتزام بما وقّعوا عليه. رأى في الاتفاق فرصة للخروج الآمن. وأسرّ لبعض السياسيين بأنه مستعدٌّ للخروج من السلطة وتسليم قواته، وأن ذلك يؤهّله بعدها للترشّح للرئاسة قائدا مدنيا ثريا بتحالفات قبلية تجعل وصوله إلى السلطة بشكل شرعي مضموناً.
من الواضح أن التغيير التكتيكي في مخطّطات الرجل حصل في تلك الأيام. لم يكن مستعدّاً للتخلي عن نفوذه وثروته وطموحه. لكنه كان مستعدّاً للتخلّي عن قواته العسكرية. مجرّد تعديل صغير في الخطّة، ويظلّ الهدف ثابتاً. لكن شريكه العسكري لم يكن ساذجاً، ولم يكن مستعدّاً للخروج من السلطة، فتصاعد الخلاف أكثر، حتى بلغ الحرب في 15 إبريل/ نيسان الماضي.
بعد اندلاع الحرب، تمسّك قائد الدعم السريع بحجّة "جلب الديمقراطية عنوة" أكثر. صارت تلك ورقته الوحيدة التي يظنّها رابحة. وعاونه فيها مستشاره السياسي القادم من خلفية سياسية مدنية. فحاول إعادة صياغة خطاب قوات الدعم السريع، التي ظلت، منذ نشأتها، تتفاخر أنها ذراع السلطة الباطش، وأنها جزء من الجيش السوداني وابنه البارّ. تحوّلت البنوّة إلى صراع. واتهم قائد الدعم السريع حليفه العسكري بالسعي إلى السلطة وإعاقة التحوّل الديمقراطي. وأمام أعين السودانيين المذهولين، انقلب مقاتلو الدعم السريع من قمع المتظاهرين المطالبين بالديمقراطية إلى مقاتلين لأجل الديمقراطية! وهو انقلابٌ لا يمكن أن يصدّقه أحد.
خلال الأسابيع الـ11 الماضية، تحدّث قائد الدعم السريع ومستشاروه كثيراً عن حربهم لأجل الثورة السودانية وقيمها، والحريات، والديمقراطية. كان ذلك التجلّي الأخير لـ"جلب الديمقراطية عنوة"، فمع نزوح الملايين، وموت وإصابة عشرات الآلاف، وتدمير كامل وممنهج لعاصمة البلاد، واستباحة منازل المواطنين وسرقتها، يؤكّد "الدعم السريع" كل يوم أنه يقاتل دفاعاً عن الديمقراطية! وفي محاولةٍ جديدةٍ للتملّص من الجرائم، أعلن حميدتي عن تشكيل محاكم ميدانية لمحاكمة "المتفلّتين" من قواته. لكن بعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال في السودان (يونيتامس) حمّلته مسؤولية جرائم الاغتصاب والاعتداء على المواطنين.
لا تبدو أمام قائد الدعم السريع مساحات كثيرة للمناورة. لذلك لا سبيل له إلا التمسّك بحيلة رفع الديمقراطية على أسنّة الرماح، مع مزيد من العنف والتدمير لإجبار العالم على التفاوض معه للبحث عن مخرجٍ آمن. المقلق أن سير العمليات الحربية في الأسابيع الآخيرة يجعل وضعه التفاوضي أفضل من قبل. هذا يجعل الديمقراطية الخاسر الوحيد، في حربٍ تُشن باسمها.