رسائل نزار قباني إلى غادة السمّان
"لن أحرق يوماً سطراً مبدعاً، حتى لو كان ذلك غير مستحبٍّ في أدبنا العربي". هكذا برّرت غادة السمان عزمها نشر رسائل نزار قباني إليها. لن أستغرب لو كان كل كاتبٍ عربي، في شباب غادة، قد كتب إليها رسائل حبّ، ونحن نشهد ذلك بغزارة، في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، التي أطلقت سراح ألسنة عدد غير قليل من الكتّاب "الكبار" سناً. الذين يفعلون كل شيء لاحتواء النّساء اللّواتي وُجَدن في لائحة الأصدقاء، على الأقل. هذا مفهوم، وحتى لو بلغ الغرائب والعجائب في أبعاده وكثافته، فلا مانع، هي الحياة الخاصة للأطراف "المتورّطة". لكن تحويل هذه الحياة الخاصة التي لا تملك خصوصيةً أدبية، كما تفعل رسائل أخرى، مثل رسائل كافكا وميلينا التي تحمل وجها إبداعياً آخر لرمز التشاؤم الأدبي كافكا، لن يقدّم شيئاً.
قليلة هي الرسائل التي تُكتب بغرض النشر اللّاحق، والتي تتميّز بأنها تتضمّن جزءاً من الحياة الشخصية للطرفين، لكن في سياق إبداعي. غير أن تجارب نشر الرّسائل الخاصة للكتاب، من دون موافقتهم، طعنة في ظهورهم. وقد قرأتُ، أخيرا، رسائل علي شريعتي إلى زوجته، خلال إقامته في باريس بعيداً عنها. وأعتقد أن نشرها إجرامٌ في حق شريعتي، لأنّها تظهر جانباً سلبياً من دون أن تضيف أيّ شيء. فهذه الرسائل، خارج الأمور المتعلّقة بتفاصيل عملية، تُظهره في شكل ضحلٍ وتقليدي، أكثر مما هو في فكره. فهو يبدأ الرّسائل بالتوسّل لزوجته التي كانت على خصامٍ معه. ويظهر جزء مُتولهاً منه، إلى درجةٍ غير مريحة للقارئ. وبعد أن فشل التذلّل، جرّب التّهديد والوعيد بالخيانة، فالنساء كثيرات وجميلات وهو يمتلك "شهية جيدة".
ثم صار هو نفسه يقلّل من رسائله، حتى صارت زوجته تعاتبه على ذلك. ولم يعد منذ تجاوبت معه زوجته يذكر سيرة الغرام، بل اكتفى بكلامٍ عام عن قيمتها عنده. في الرسائل، اكتشفنا جانبا متسلّطاً منه، حين كتب لها أن عليها المجيء للعيش معه، في باريس رغم رفضها. قائلاً بعد محاولات إقناع: عليك أن تأتي طوعاً أو كرهاً فأنا رجلُ البيت وأنا من يقرّر. مع إعجابه الشديد بنفسه، بوسامته، وذكائه، وسرعة تعلمه اللغات، وهي أمورٌ تفيض بها رسائله. لعل كثيرين من الكتّاب يشبهونه، لكنّهم لحسن حظّهم لم يكتبوا رسائل، أو لم يكن هناك من يغدُرهم بنشرها، فظلّ جانبهم الإنساني المعطوب غائباً عنا.
في ما نُشر من الرسائل، اشتُهرت رسائل غسّان كنفاني إلى غادة، لأنها كانت نوعا نادرا من الكتابة في المشهد الثقافي العربي، آنذاك. ولأن غسّان شخصية شديدة الرمزية، بكتابته ومواقفه وحياته، وقصة حبه زوجته الدنماركية، فبدت الرسائل طبقاً فضائحياً لذيذاً، مع بعض الفقرات العذبة. ثم جاءت رسائل أُنسي الحاج إلى غادة، فكانت طبقاً ثقيلاً على المعدة. لأن القرّاء اكتشفوا أن الأستاذة غادة كانت تمد شبكة خيوط مُحكمة لمحبّيها كما تفعل أنثى العنكبوت، فنرى كم يهيمون بها، في خطاباتٍ مندفعةٍ بسبب قلة الحوافز العاطفية في الواقع، والضّغط الاجتماعي. حين وجد هؤلاء الكتاب كاتبة ذات وعي وجمال، فقرروا أن يُعَرّوا ذواتهم أمام هذه الرّوح التي لم تكن أمينة.
حتى لو مرّت قرونٌ على رسائل من هذا النوع، لن يصبح نشرُها ملائماً، لأنها أسرار أصحابها، ولا تقدّم أي إضافة للأدب. مثلما فعلت، مثلا، رسائل فان غوخ، التي قرّبتنا من روحه، ومن هواجسه الفنّية والشخصية، بلغةٍ جميلة، تعبر عنه هو الذي لم يترك كلمات غيرها.
من المرجّح أن غادة بالفعل لا تملك رسائلها إلى الآخرين، لأنها لم تضع في بالها أنها حين تشيخ سيلعب الفأر في ذهنها، ويُخرجها إلى النور فتترُك منها نسخاً. من جهة أخرى، فأن تكون الرسائل مفقودة عند الطرف الآخر يعني أنها كانت خاصة، إلى درجة أنه لم يستطع الاحتفاظ بها، ولعلّ كل واحدٍ من عشّاق غادة كان يتخفّف من مشاعر ذكورية فائضة على الورق، ثم يُكمل حياته، وربما كانت تجربة سلبية لم يودّوا الاحتفاظ بآثار منها.
عزيزتي غادة: هذه الرسائل ليست سطورا مبدعة، بل حديثٌ خاص، لأنّهم لم يكونوا قد اكتشفوا "فيسبوك" بعد، ولأنّ المكالمات الدولية كانت غالية، يا غادتي، وإلّا لنجا الأمواتُ من مكائد الأحياء والحيّات!