رسائل مؤتمر المناخ مصرياً
دائماً ما كانت قمم المناخ تمرّ مرور الكرام وتنتهي، ولا يتبقى منها في الذاكرة سوى صرخات غضب عامة ومتشابهة للتحذير من مغبّة الاستمرار فى انتهاك المناخ والبيئة، وما يجلبه ذلك على البشرية من مصائب وآلام وشرور، ربما لا يشعر بها إلا مواطنو الدول الفقيرة.
كانت قمّة "كوب 27" في مصر مختلفة تماماً، إذ تجاوزت قضايا المناخ، بعموميتها، لتفضح انتهاكات النظام السلطوي في بلد الاستضافة مصر (المعروفة إجمالاً)، وتنتصر لقضية حقوق الإنسان المهدرة والمُنكسة طوال عقد، فحينما يقال إنها قمة علاء عبد الفتاح وسناء سيف، لا يقلل هذا من سجلات العار التي تتضمن أسماء آلاف المعتقلين، بل تؤكّد الرمزية معاني المظلومية وتنتصر لها وترفع صوتها وتفضح معاناتها وتضع الإنسانية في مواجهة البراغماتية ولغة المصالح العتيقة العفنة، في إشارة واضحة ومنهجية سيكون لها ما بعدها.
النظام المصري الذي يُدمن الخداع ويستهويه أرادها على شاكلة كل زياراته الخارجية واجتماعاته وخطبه الداخلية ودروسه ومحاضراته ولفتاته وتبريراته السوقية، للحصول على صور ولقطات يعظّم عوائدها ويستمد منها القوة لفرض سياج الخوف في قلوب مواطنيه، وينشر بينهم الفزع، ويوقّع معها مشروعات ويستجلب أموالاً ويفتح مزاداتٍ للتسوّل وبيع الأصول ويسوّق سياحته وفنادقه، وفي الوقت نفسه، يخفي وراء جبال الكذب والخيال، بمساعدة جيوش لجانه الإعلامية والحقوقية، جرائمه وانتهاكاته.
سقطت السياسة وورقة التوت في "كوب 27"، وبدا أن الملفّ الحقوقي أحدث انقلاباً ضد رؤية النظام المصري لسير المؤتمر، وأكّد، بما لا يدع مجالا للشك، أنه هو الضاغط الوحيد على النظام، حتى في ظل معاناته الاقتصادية الدائمة واقترابه من منحدر الإفلاس، والتي دائماً ما يجد لها حلولاً وقتية، وإنْ تخلى عن جزيرتي تيران وصنافير وباع الأصول واستغنى عن المقدّرات، وتسوّل واستجدى في الخفاء والعلن، لكن إدارته الملف الحقوقي تنم عن فشل واضح، فهو رغم كل محاولاته المضنية، لم يصل إلى أدواته بعد، ولم يدرك بعقليته الجامدة فلسفته وسياقاته.
أظهر مؤتمر شرم الشيخ مدى قوة الحركة الحقوقية المصرية، وتماسك شقّيها الداخلي والخارجي، على الرغم من الضربات التي وُجهت لها
وبعد انتهاء المؤتمر، نستطيع أن نستخلص نقاطا وملاحظات ستؤسس لمرحلة مختلفة لما بعد هذا المؤتمر، ظهرت مؤشراتها في الآتي:
أولا، أظهر المؤتمر مدى قوة الحركة الحقوقية المصرية، وتماسك شقّيها، الداخلي والخارجي، على الرغم من الضربات التي وجهت لها، حيث بدت، ربما للمرة الأولى منذ سنوات، صلبة وقادرة على الحشد والتنسيق والنجاح والالتزام بشعار واحد، والإبداع، والاستمرار في الحركة مقابل الضغوط.
ثانيا، نجاح حملة علاء عبد الفتاح هو نجاح للعمل الحقوقي على ملف المعتقلين السياسيين. ويعود ذلك النجاح إلى رمزيته، واتفاق الجميع عليه من ليبراليين ويساريين وإسلاميين، والدعم الحقوقي والرابط الأسري وقدرات أسرته ومحاولاتهم الدؤوبة والمستمرّة والمتنوّعة للدفاع عنه وطرقهم كل الأبواب، من أجل إنقاذ حياته.. كل هذه المقومات جعلت النظام يراه حجر عثرةٍ في طريقه. لذا حاول على الدوام كسر إرادته واحتجازه وجعله عبرة وعظة لجيله والأجيال اللاحقة، وأكّد على الدوام عدم التسامح معه أو العفو عنه، ولو بشرط الخروج إلى بريطانيا، كما فعل مع رامي شعث أو مواطني الولايات المتحدة (عدا آية حجازي) الذين أُفرج عنهم في صمت وأبعدُوا في الخفاء.
ثالثا، تجاوز النظام كل الحدود، بما في ذلك استخدام الأطفال وتجييشهم في الميديا والبروباغندا، بعد تلقينهم جملا ومعاني لا يعرفوها وربما لا يدركون الغاية من ورائها، كما حدث في تظاهرهم وهجومهم على علاء عبد الفتاح ودفاعهم عن النائب المطرود عمرو درويش، من دون أن يعرفوا هذا أو ذاك.
رابعا، فشل النظام فشلاً ذريعاً في الدفاع عن سجلّه الحقوقي السيئ، أو تسويق فكرته أو إقناع المجتمع الدولي بمبرّرات ما يرتكبه من انتهاكات، رغم حرصه على أن يكون "كوب 27" مؤتمر الصوت الواحد..
خامسا، أكدت قمّة السيسي ــ بايدن المقتضبة أن فكر النظام ورؤيته لم يطرأ عليهما أي تغيير، وأن التزامه بالقمع وجودي .. وأن الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان وتفعيل لجنة العفو كانا من أجل مؤتمر المناخ وفقط. ولكي يقف السيسي أمام بايدن، ويدّعى أنه دشّن الاستراتيجية ولجنة العفو، ويزعم أن الوضع جيد، ويعتذر عن مزيد من الإضافات من أجل وقت الضيف الثمين.
سادسا، أجبرت الفعاليات الشعبية السيسي على ألا يتحدث سوى عن الملف الحقوقي، وابتعد تماماً عن الشأن السياسي وقضية سد النهضة، وحاصرته ردود الأفعال تماماً حتى مع ضيوفه، وبدا أنه ما زال يعتقد أن الملف الحقوقي بمثابة معادلة صفرية، وأن الإفراج عن المعتقلين يمثل تهديدا حقيقيا لوجوده، ويؤكّد اقتراب نهايته، وهو الدرس الوحيد الذي ربما تعلمه من سقوط حسني مبارك، أن الاستبداد والقمع هما الضمانة الوحيدة لبقاء النظم وديمومتها.
سادسا، خلع فريق السيسي الحقوقي وأعضاء لجنة العفو، والمجلس القومي لحقوق الإنسان، رداء العقلانية والاتزان المصطنع، وكشفوا عن انحيازهم الفج للنظام بسقطاته، ودافعوا عن ممارساته بالكلية، واعتبرت عضو المجلس نهاد أبو القمصان مثالا لمعركة النظام الخاسرة معركتها الشخصية. وهكذا فعل عضو لجنة العفو الرئاسي طارق العوضي. ولم يع كلاهما درس الرموز التي سبقتهما، والتي كانت تتحرّك ذهاباً وإياباً إلى جنيف، ثم طاولها الاندثار عقب انكشافها لتذهب طي الكتمان.
تحوّل مؤتمر المناخ إلى كابوس، وأصبحت الآمال تعقيدات وأزمات خانقة
سابعا، ظهر خطاب النظام فقيرا وبائسا وهروبيا وغير متحضّر، خطاب الصوت الواحد الذي يستجدي ضيوف المؤتمر ألا يتجاوزوا شأن المناخ، فلا علاقة له بالشأن السياسي أو الحقوقي، وكأن الشأن الاقتصادي وجمع التمويل له علاقة بالمناخ!.
ثامنا، رغم حشد النظام أكبر عدد من الرؤساء لعلاج نقطة ضعفه وترقيع شرعيته، أجبرته الفعاليات المضادّة وحيويتها، خصوصا مؤتمر سناء سيف الصحافي، على تقليل الدعاية، حتى إن معظم الرؤساء غادروا المؤتمر وعادوا إلى بلدانهم من دون أن يشعر بهم أحد، حيث أثار المؤتمر موضوعات وقضايا مثلت ضغوطاً على النظام، فمعظم الرؤساء تحدّثوا عن أزمة علاء عبد الفتاح والشأن الحقوقي، وطالبوا بإيجاد حلول عاجلة لها، وعادت رئيسة وزراء إيطاليا، جورجيا ميلوني، بذاكرة بلادها إلى الوراء، وطالبت بالتعاون فى كشف حقيقة مقتل باحث الدكتوراه جوليو ريجيني فى يناير/ كانون الثاني 2016، والتعاون فى إغلاق ملف باتريك جورج زكي. كما أحدث رئيس وزراء بريطانيا، ريشي سوناك، جدلاً بانسحابه المفاجئ من قاعة المؤتمر.. وصرّح رؤساء ومسؤولون أفارقة إنهم لم يستشعروا أن المؤتمر يمثل أفريقيا، وألمح الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني، فى مقاله في "نيوزويك"، إلى أن النظام المصري استغلّ المؤتمر لتحسين صورته والتسوّل.
تاسعا، أزمة الصرف الصحّي التي ظهرت في شرم الشيخ وأرّقت ضيوف المؤتمر والشكوى المتكرّرة من نقص مياه الشرب وارتفاع أسعار الطعام، حتى تجاوز سعر الساندويشة 15 دولارا، وتضاعف أسعار الغرف الفندقية عدة مرّات. وأعلنت الأمم المتحدة فتح تحقيق في "سوء سلوك الشرطة المصرية" المكلفة بحراسة قمة المناخ، بعد اتهامها بـ"التجسّس على الوفود المشاركة في المؤتمر".
عاشرا، إذا تجاوزنا لجان النظام، تحوّل مؤتمر المناخ إلى كابوس، وأصبحت الآمال تعقيدات وأزمات خانقة، وبدا أن وضع معايير لدول الاستضافة ربما لن تستطيع الإمارات في "كوب 28" تجاوزه.
ظهر خطاب النظام فقيراً وبائساً وهروبياً وغير متحضّر، خطاب الصوت الواحد الذي يستجدي ضيوف المؤتمر ألا يتجاوزوا شأن المناخ
أحد عشر، كان شعار لا عدالة مناخية من دون حقوق الإنسان نجم الحملات الدعائية، ونجح إلى حد كبير، وعبّر عن البعد الإنساني المفتقد في المؤتمرات المتكرّرة والسنوية، وضخّ فيها الحياة مجدّداً.
وبشأن الاحتمالات الثلاثة لتعامل النظام مستقبلا مع الوضع الحقوقي، هي: أولا، أن يستمرّ النظام في تقديم قليل من التنازلات الحقوقية، على وقع الأزمة الاقتصادية، مع استخدام البروباغندا الإعلامية لتعظيم الانفراجة المحدودة في ملفّ المعتقلين السياسيين، واستمرار إطلاق العنان للأجهزة الأمنية للقمع، والتحكّم في مخرجات الحوار وإفراجات السجون. ثانيا، استغلال مؤتمر قمّة المناخ بوصفها صكوكا دولية في مواجهة أي ضغوط قد توجّه إليه، والبدء بالتراجع عن وعوده، والعودة إلى استهداف المنظمات الحقوقية والمدافعين عن حقوق الإنسان في الداخل، واستئناف ملف الإعدامات السياسية، وإغلاق أي باب للحوار والارتداد السريع مرّة أخرى إلى المربع صفر. ثالثا، أن يعمل النظام على تعديل سلوكه، ويبدأ في العمل التدريجي على تحسين الأوضاع في ظل الضغط الاقتصادي والاجتماعي الذي ربما يستمر إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2024، لكن تلك الاحتمالية تصطدم بيقين النظام أن السبب الرئيسي لثورة 25 يناير (2011) هو مساحة الحرية التي أطلقها نظام حسني مبارك، وأنه لولا ذلك، لما خرجت الأمور عن السيطرة... أغلق النظام الاحتمالين الأول والثالث بالضبّة والمفتاح، وواحدا من مخرجات فشل قمّة المناخ أن يهرول النظام إلى الاحتمال الثاني بلا روية أو عقل.
في النهاية، أكّد مؤتمر المناخ أن النظام في مصر ضعيف، ولا يملك حلولاً عدا القوة والبطش، وهي مقومات الفشل الذريع التي لا يُرجى معها تطبيع أو استتابة أو توقع خير أو تنازل، وهو ما يُخشي من أن يدفع بعضهم إلى البحث عن أدوات للتغيير أو التنفيس ربما تتجاوز الحلول السلمية.