رسائل إلى الجنّة
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
"كل عام وفدوى تغني في الجنّة".. رسالة كتبها القاص حمود سعود إلى صديقه أحمد الراشدي، مؤلف كتاب "رسائل إلى فدوى" الذي صدر، قبل أيام، عن دار نثر العُمانية. .. والملاحظ أن كلمتي "الرسائل" و"الجنة" وردتا أكثر من غيرهما في هذا الكتاب الذي وثق فيه كاتب قصص الأطفال والحكواتي، الصديق أحمد الراشدي، الرسائل التي تبادلها مع ابنته فدوى التي رحلت عن عالمنا وهي في عمر الزهور (ستّ سنوات)، حين كان والدها في نزهةٍ في مرتفعات جبال الكاميرون في ماليزيا. وبينما كان الراشدي في سوق شعبي هناك، ارتدى قبعةً فيها رسوم حيوانات، وطلب من رفيق رحلته أن يصوّره. وبعد أن عاد إلى الفندق، أرسل الصورة إلى زوجته عبر واتس أب "هدية لحبيبتي فدوى".. لكنْ روح الملاك فدوى كانت، في تلك الأثناء، فوق سطح بيت جدّها في ولاية سمائل، تفارق جسدها الجميل لتحل في جنة الله الواسعة، إثر إصابتها بتماسّ كهربائي وهي تلعب..
ولكن أحمد الراشدي استمرّ وفيا لكتابة الرسائل إليها .. رسائل في غاية العذوبة، يتّحد فيها الألم بالإيمان، برحابة الكون، وكسر الفواصل بين الواقع والعدم. رسائل بنبرة أدبية مهّدت لها مقدمتان، خطّ أولاهما القاص سليمان المعمري والثانية مؤلف الكتاب نفسُه، يشرح فيها سياقات الألم وانشغاله الموجّع بغياب حبيبته الملاك بعد هذه النهاية الصادمة. "مرّة خرج يركض حافي القدمين - حاملا قنينة ماء - ليسقي قبر حبيبته، إثر شمس وارية"، وتماهياً مع قول محمود درويش "الموت لا يوجع الموتى / الموت يوجع الأحياء"، نجح الراشدي الأب في أن يؤسّس جسر تواصل مع ملاكه الصغيرة الحاضرة/ الغائبة، وأن يبدع نصّه الخاص الملتحم والمشتبك بالتجربة الوجودية والمصيرية؛ وهو ما عكسه تساؤل سليمان المعمري في تقديمه الكتاب: "كيف استطعت أن تُحوّل هذا الحزن إلى كتاب إبداعي!؟"..
وعكس الكتاب لوعة الكاتب على فراق فلذة كبده، ففي إحدى رسائل الكتاب يستأذن الراشدي ملاكه الصغيرة في أن يهدي لعبتها إلى أختها: "أختك مكية تقول لي: بابا، إذا كانت فدوى راحت الجنة أنا آخذ آيبادها نزينه؟ ما رأيك يا فدوى الطيبة؟"..
وجدير بالإشارة أن الراشدي كان قد أطلق على صغيرته الراحلة اسم فدوى تيمّنا بالشاعرة فدوى طوقان "حتى يذكّرني اسمها بفدوى فلسطين". وكان الكاتب قد قرأ دواوين الراحلة طوقان، وأعجب كثيرا بسيرتها "رحلة جبلية رحلة صعبة"، إذ قال عنها "كانت فدوى طوقان شاعرة فيها شموخُ الشمس، فعزمتُ على تسمية أول مولودة لي باسم فدوى".
وورد في كتاب الراشدي عن ملاكه الراحلة مقطع لا يمكّن القارئ من مقاومة دموعه وهو يقرأه، يلخص متفرقات كل ألم ويجمعها، كما يقول ديستويفسكي في إحدى روائعه الخالدة "إن في الحياة ساعة تتجمع فيها آلام سنوات". إذ يكتب الراشدي إلى حبيبته، مستذكرا لحظة توديعها الطويل له، قبل أن يسافر إلى ماليزيا: "اِرجعي لي، يا حبيبتي، لأعالج عينيك الجميلتين. سامحني يا رب، سامحني. كيف سمحت لنفسي بأن أسافر وعينا فدوى كانتا حمراوين. تنظران إلي نصف مغمضتين. اِرجعي لي، يا حبيبتي، وسأفقأ عيني، لتبصر عيناك .. عيناك سماءُ حبّ وفرح لي ساعة الهمّ. عيناك حديقة ورد تورق ربيعا عند عودتي إلى البيت. عيناك ضحكتان مهاجرتان من فرح الفرح.. عيناك.. عيناك".
ومعروف أن أحمد الراشدي هو في الأصل مُربّ وناشط اجتماعي في مجال الطفولة، ويعدّ برنامجا في هذا المجال. وإلى جانب كونه حكواتيا "ورث المهنة"، من جدّته، كما يشير في مؤلّفه الجديد. صقل الراشدي موهبة الحكواتي بانفتاحه على تجارب لحكواتيين عرب، تعرّف عليهم وزاملهم، منهم العراقية انطلاق محمد علي واليمني عبد الرحمن عبد الخالق ومؤلف القصص السوري مهند العاقوص والفلسطينية دينيس أسعد واللبنانية إيفا كوزما وغيرهم.
كتب الراشدي هذه الرسائل بعد رحيل ابنته فدوى في أكثر من بلد، منها المغرب وإيران، وطبعا عُمان.. كان، إذن، يبعث من كل مكان في الأرض رسائل إلى الجنّة.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية