رحلة إلى وادي الطائيين

31 يوليو 2023

(محمد العامري)

+ الخط -

وادي الطائيين من أكبر أودية عُمان، هو سلسلة قرى متوالية مرتفعة، تنتهي في أحد جوانبها بمسطّح الجبل الأبيض. وفي هذا الجبل، يفضّل الناس العيش في الهواء الطلق، حتى حين بنت الدولة للأهالي بيوتاً، أو غرفاً، هناك من لا ينامون فيها، إنما في الأسطح، بينما خصّصوا هذه الغرف أو البيوت للعلف الحيواني في الغالب (!) أو لتخزين التمر. 
أردنا الأسبوع الماضي المبيت هناك، بعد اتفاقٍ عائلي، حين وجدنا إعلاناً عن استراحةٍ في قرية "بيّض"، ثم ذهبنا، وكان بالرفقة أخي أحمد، المقيم في موسكو، وولداه آدم ونزار. خصّص صاحب الاستراحة تلته العلوية استراحة يؤجرها باليوم، حيث بنى عليها غُرفاً وملعب كرة قدم صغيراً وحوض سباحة متوسّط الحجم. تطلّ الاستراحة العلوية على لسانٍ صخري، يبدو في الصيف جحيمياً. 
يرتبط وادي الطائيين، أو الطايين كما ينطقه بعضهم، أو ولاية دما والطائيين كما مسمّاه الرسمي، في ذهني بذكرى بعيدة. وكان الشارع الذي يربط بين قراها غير ممهّد. لذلك يشبه السفر عبره قديماً مغامرة لا تخلو من عذابٍ ومتعة. ومكمن العذاب في مشقّة الصعود بسيارات البيك أب عادة. وتتأتى المتعة بالنسبة لنا، كأطفال، في وجود الماء بين وقت وآخر، حيث تتعثر السيارة وندفعها بأيدينا حين يعترضنا ماء البرك. في تلك الأثناء، يسمح لنا الكبار بالاستحمام والعوم، ومنهم من يستحم معنا. وهكذا يظل الطريق الصعب يتناوب بين مجهود المشاركة في دفع السيارة والسباحة في البرك المائية التي يجود بها الطريق. 
جلسنا في تلك الاستراحة يوماً. زارنا في الليل الروائي والقاص زهران القاسمي ومعه صديق سوري يرتدي دشداشة ومصرا (غطاء الرأس) عُمانياً، ولم نعرف أنه غير عُماني إلا حين تكلم. جلسا معنا قرابة الساعة، وصادف وجودهما شوي أسياخ من لحم الغنم، فشاركا بما تيسّر. يسكن زهران في قرية "مس"، وهي إحدى سلسلة قرى وادي الطائيين، وبالقرب منها قرية "نقصي" التي لنا فيها ذكريات طفولية كثيرة، حين كنا نزور خالة والدي التي تقطن هناك مع عائلتها الصغيرة. ومن هناك، كنا نذهب إلى قريتي "السبل "و"الحمام"، وهما كذلك ضمن سلسلة قرى وادي الطائيين، وذلك لزيارة خالتي وعائلتها الصغيرة المكوّنة من زوجها وابنتها. في ذلك الزمن المليء بالوفيات المهولة، غالباً لن يكون لدى الأسر أكثر من فرد أو فردين من الأبناء. وهناك من حصد الموت كل أبنائهم، فظلّوا بدون أحد، رغم أن المرأة قديماً كانت تتزوّج مبكّراً جداً. 
وفي الصباح الباكر، كنتُ أنتهز الفرصة للمشي، واكتشاف ما تخفيه قرية "بيّض" التي توجد فيها الاستراحة. وبعد طول مشي، وجدتُ فلجاً (قناة مائية) طولياً مغطّى بالإسمنت. ولكن في بعض جوانبه، ومن خلال شقوق صغيرة، يفيض الماء. وذلك الفيضان مع توالي الزمن صنع في الأرض ما يشبه نبعاً جارياً، بالإمكان أن يغمس الإنسان فيه رجليه فقط. وحين غمست رجلي، ما هي إلا دقائق، بعد أن اطمأنّت إليَّ الأسماك الصغيرة التي نسميها الصدّ، إلا وجاءت في دفعات لتأخذ زادها من رجلي. يشبه الأمر تلك الأحواض العلاجية التي يمكن مشاهدتها في بعض البلدان الآسيوية، حيث يغمس المرء رجليه في الحوض وتأتي الأسماك لتشذيب قاع قدميه من الزوائد الجلدية، ولكن الأمر حدث هذه المرّة بصمت شديد وبالمجان. يمكنك أن تغمس رجليك الوقت الذي تشاؤه، وحين تملّ ترفعهما وتذهب.
حين عدتُ إلى الاستراحة، وجدت أطفال العائلة يعومون في البركة قبل الرحيل، فشاركتهم السباحة. الغريب أن الحوض كانت فيه مادة الكلور، وذلك لكي يظل أكبر فترة ممكنة بدون داعٍ لملئه مرّة أخرى. يصلح هذا الأمر ربما في الفنادق والأحواض الرسمية، أما في أحواض القرى فكان من الأفضل أن يكون الماء طبيعياً يتجدّد باستمرار. ولذلك حين وصلت إلى مسقط، أصيبت أذناي بالفطريات، وشعرت بحمّى، استدعت ذهابي إلى المركز الصحي القريب.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي