رثاء إذاعة بي بي سي العربية أم أنفسنا؟
أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، في 27 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، عن توقف بثّها الإذاعي باللغة العربية بعد 85 سنة على انطلاقها. وأثار الإعلان ردود فعل عاطفية جداً في العالم العربي، خصوصا لدى الأجيال المتقدّمة نسبياً بالعمر، علماً أن تلك الردود تتعلق أكثر بحياتنا وتاريخنا ونكساتنا ونكباتنا خلال العقود الثمانية الماضية، وارتباط كثيرين منا بالإذاعة البريطانية في ظل حالة الجدب والقفر والتصحّر التي أشاعتها أنظمة الاستبداد، ليس فقط إعلامياً وثقافياً وإنما سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً أيضاً. وثمّة محدّدات وثوابت ومقاربات منهجية وتاريخية وفكرية وسياسية، وبالطبع إعلامية، لا بد من أخذها بالاعتبار عند التعاطي مع قرار توقف البثّ العربي لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي).
بداية، نتحدّث عن إذاعة تابعة ومملوكة لمن كانت القوة الاستعمارية الكبرى في العالم التي احتلت بلادنا العربية والإسلامية ومناطق مختلفة قرونا، مع الانتباه إلى قصة الاستقلالية الإدارية والوهمية والخادعة للإذاعة، ولكن مع التزام تام بالخطوط العريضة للسياسة البريطانية في المنطقة ضمن سياسة "فرّق تسد"، وتأجيج الخلافات والتباينات السياسية والعرقية والمذهبية في المنطقة. وتذكّرنا الإمبراطورية البريطانية، التي كانت لا تغيب الشمس عنها زمن إطلاق الإذاعة، بأسى وحزن بمقولة الخليفة هارون الرشيد الشهيرة، مخاطباً السحب "أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك"، لكن دولنا أو حتى إمبراطورياتنا آنذاك كانت من دون قهر واستعباد أو قتل للشعوب ونهب خيراتها. بينما نهبت البريطانية خيرات البلاد لصالح مشروعها النهضوي الصناعي، واستعبدت الشعوب قرونا وقتلت أبناءها وحوّلتهم إلى أيدٍ عاملة رخيصة لمشروعها الاستعماري، وحتى مرتزقة لحروبها الإقليمية والعالمية أيضاً.
بشكل مباشر، وفي ما يخصنا، قسّمت الإمبراطورية البريطانية العالم العربي والإسلامي، وكانت وراء اتفاقية سايكس بيكو وإنهاء الخلافة العثمانية كآخر إطار مؤسساتي جامع معبّر عن الأمة وحضارتها وثقافتها، وارتبط ذلك بشكل وثيق ومباشر باغتصاب فلسطين وزرع إسرائيل في قلب العالم العربي الإسلامي، عبر وعد بلفور الذي أعطى فيه من لا يملك لمن لا يستحقّ، بمعنى أنها كانت راعية إسرائيل أساساً قبل أن تسلّم الراية إلى حليفتها ووريثتها الاستعمارية الولايات المتحدة.
الإذاعة البريطانية لم تنل مجدها عربياً بمجرّد تأسيسها، وإنما استغرق الأمر عقدين تقريباً
الفكرة أو المغزى، بل القاعدة واضحة جلية هنا. ولا تخطئها العين، إسرائيل كقاعدة للقوى الاستعمارية الكبرى، بريطانيا ثم أميركا، مع الانتباه إلى أن فكرتها الأولى أطلقها نابليون بونابرت في سياق استعماري بحت أيضاً، أو للدقة حاملة طائرات برّية، كما كان يردّد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، أرئيل شارون، في اعتراضه على مبلغ المعونة الأميركية السنوية الذي اعتبره دوماً زهيداً ومتواضعاً جدّاً قياساً للخدمات التي تقدّمها الدولة العبرية لأميركا والقوى الاستعمارية.
إذن، هذه هي الخلفية التاريخية والفكرية والسياسية التي صاحبت تأسيس خدمة هيئة الإذاعة البريطانية باللغة العربية (العام 1938)، مع ضرورة الانتباه جيداً إلى تاريخ انطلاقها بالتزامن مع أجواء الحرب العالمية الثانية، وكان هذا سبباً رئيسياً أو أحد الأسباب المركزية لإطلاق الإذاعة، بمعنى الدعاية لبريطانيا وحلفائها. وبنظرة إلى الوراء، أعتقد أن ثمّة سببا إضافيا للمشروع يتعلق بقرب زوال الاستعمار القديم، والرغبة بآخر ناعم جديد، فكري ثقافي واقتصادي. ومن هنا، مثلت "بي بي سي" ذراعاً للمشروع الاستعماري الجديد، خصوصا في بعده الإعلامي.
تاريخياً، يجب الانتباه كذلك إلى أن الإذاعة البريطانية لم تنل مجدها عربياً بمجرّد تأسيسها، وإنما استغرق الأمر عقدين تقريباً، وخلالها، كانت لدينا إذاعة بل إذاعات هنا القاهرة والقدس ودمشق وبغداد والخرطوم وطرابلس الغرب، ولم نكن بحاجة لـ"هنا لندن"، خصوصا أن حواضرنا كانت ناهضة بعد الاستقلال، ولدينا نواة صلبة لدول مدنية وديمقراطية، ملكيات أو جمهوريات، كل مواطنيها، وإعلام حرّ واقتصاد حرّ ومجتمع حرّ، وأوقاف حرّة. وببساطة، لم نكن بحاجة إلى إذاعة بي بي سي لسماع أخبارنا أو تأطيرنا ثقافياً وفكرياً أو للتعبير عن آرائنا ومواقفنا مع الحياة السياسية والحزبية النشطة، وحيوية الشباب في ساحات الجامعات والميادين العامة في حواضرنا ومدننا الكبرى بما فيها فلسطين نفسها ضد الاحتلال، الكيان المزروع بريطانياً.
وعملياً، بدأ مجد "بي بي سي" في خمسينيات القرن الماضي، بعد عقدين تقريباً على تأسيسها، مع تمكن الانقلاب الأم في القاهرة، يوليو/ تموز 1952، وتحكّمه بكل السلطات، وتخلصه من كل خصومه في الساحة السياسية، وحتى داخل مجلس الانقلاب نفسه الذي جرى استنساخه أو تحديثه في حواضرنا التاريخية الكبرى، دمشق وبغداد، ثم الخرطوم وطرابلس والجزائر، والتي مثّلت تاريخياً الوعاء الحضاري والثقافي والفكري للأمة. قام الانقلاب، وتحديثاته العربية، بتأميم الإعلام الذي كان حرّاً ومملوكاً ومداراً من القطاع الخاص والمجتمع وقواه الحية. ومن هنا، بدأت قصة تأليه الزعيم القائد ونشر الأكاذيب والدعايات، ومنع نقاش أزمات المجتمع ومشكلاته وحتى نقل أخباره بشكل صحيح ودقيق.
كانت إذاعة صوت العرب تجسيداً حيّاً للإعلام الاستبدادي أو الاستبداد الإعلامي، وما كان بإمكانها بالطبع من دون عمل مهني وديمقراطي وتعدّدي، وخطابها هابط مبتذل (اعتادت تسمية أحد الزعماء العرب باسم والدته)، منافسة "بي بي سي" بقدراتها وأدائها المهني الموجه، خصوصا مع استيعابها المواهب والقدرات الإعلامية العربية التي فرّت من سجون الاستبداد الكبيرة والصغيرة.
كانت "صوت العرب" تجسيداً حيّاً للإعلام الاستبدادي أو الاستبداد الإعلامي، وما كان بإمكانها بالطبع من دون عمل مهني وديمقراطي وتعدّدي منافسة بي بي سي
كان الإعلام المكتوب نموذجاً أيضاً عن "صوت العرب" مع صور وأخبار وتفاهات الزعيم القائد بالصفحة الأولى والعناوين العريضة، كما رأينا في النكبة الثانية في يونيو/ حزيران 1967 التي أسموها نكسة، كي لا يدفعوا الثمن سياسياً وإعلامياً. عندما تساقطت طائرات العدو الإسرائيلي كالذباب، وباتت جيوشنا على أبواب تل أبيب، بينما كانت الأخيرة قد احتلت فعلاً كامل فلسطين التاريخية، بما فيها القدس، إضافة إلى شبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان.
وعليه، لم يكن غريباً أن يلجأ الناس إلى "بي بي سي" لمعرفة ما يجري في بلدانهم ومدنهم وأنظمتهم، بما في ذلك في فلسطين نفسها، وكيف احتلتها إسرائيل بسهولة، إضافة إلى سيناء مترامية الأطراف وهضبة الجولان الاستراتيجية.
في تلك الحقبة، مثّل لبنان استثناء عربياً بديمقراطية مدنية، ولو غير كاملة أو مثالية، ولكن مع تعدّدية حزبية وحريات سياسية واقتصادية وإعلامية، كان فعلا "سويسرا الشرق"، منفتحاً على العالم ومنخرطاً في تحديات الأمة، حيث كانت شوارعه تفيض حياة وحيوية بتظاهرات وفعاليات داعمة لفلسطين وقضايانا العربية وحتى الأممية. لهذا، لم نر هناك هذا الاهتمام أو الانبهار بإذاعة بي بي سي، بوجود إعلام حرّ مكتوب ومطابع ومكتبات من دون قيود احتوت الكتب الممنوعة في العالم العربي كله، إضافة إلى منابره الثقافية والفكرية والأكاديمية والبحثية الأخرى... كان ذلك كله قبل الحرب الأهلية المفتعلة في لبنان، التي جرى التحريض عليها خارجياً، ثم الاحتلال السوري، لإدخاله إلى زمرة الأنظمة الاستبدادية الفاشلة، وقمع إعلامه الحرّ وترويضه، وحتى دوره الفكري والثقافي العربي بشكل عام.
إلى ما سبق كله، لا يمكن مقاربة قصة نجاح إذاعة "بي بي سي" مع تجاهل وعدم أخذ فشل تجربة التلفزيون التابع لها بالاعتبار. ورغم استنساخه برامج الإذاعة حرفياً، إلا أنه لم ينجح في الإقلاع، وفشل فشلاً ذريعاً، والمفارقة للسبب نفسه التي ذكرت أعلاه، ولكن بالاتجاه العكسي.
الرثاء العاطفي للإذاعة البريطانية مرتبط بأنفسنا، بعدما حطّم الاستبداد أجيالاً عدّة، ومنعها من الحياة بالمعنى الدقيق والكامل للمصطلح
وبتفصيل أكثر، مع تأسيس قناة الجزيرة التي كسرت التابوهات السياسية والفكرية والثقافية والإعلامية التي أنتجها الاستبداد، وأتاحت الفرصة لمناهضيه وضحاياه للتعبير عن أنفسهم وأفكارهم، ثم انطلاق تلفزيون العربي وقنوات أخرى معبرة عن الثورات العربية الأصيلة التي أنتجت إعلامها الخاص بمنصاته المختلفة "المرئي والمكتوب والمسموع"، لم يعد الناس بحاجة إلى "بي بي سي" لمعرفة أخبارهم وشؤون بلادهم أو التعبير عن آرائهم وتطلعاتهم.
الجيل العربي الشاب أيضاً، عشريني وثلاثيني، لا تعنى له "بي بي سي" شيئاً، وهو مرتبط بالتكنولوجيا و"السوشيال ميديا" بشكل كبير، وليس مضطرّاً لمتابعة الإذاعة البريطانية ولا موقعها الإلكتروني ومنصّاتها الأخرى لمعرفة ما يجري حوله، كما كان يفعل آباؤه وأجداده، خصوصا مع موقفها الملتبس من الثورات العربية الأصيلة، واستخدامها لغة ناعمة جداً وحتى مهادنة لرموز وقادة الثورة المضادة في العالم العربي.
في العموم، يشير فشل تجربة تلفزيون بي بي سي عربي إلى أن قرب نهاية مجد الهيئة كلها وتوقفه تماماً مثل الإذاعة (مع التعاطف طبعا مع الزملاء والعاملين فيها)، قد يكون مسألة وقت أيضاً، كما قنوات الغزاة الأخرى الناطقة بالعربية والداعمة للاحتلال الأجنبي والثورات المضادة سرّاً وعلانية، علماً أننا، ومن جهة أخرى، فكرية وسياسية، نجد أنفسنا أمام أفول موصوف لهيمنة الغرب والاستعمار بشكليه القديم والجديد، بينما الرثاء العاطفي للإذاعة البريطانية مرتبط بأنفسنا، بعدما حطّم الاستبداد أجيالا عدّة، ومنعها من الحياة بالمعنى الدقيق والكامل للمصطلح. ومن هنا، لا شيء يدعو إلى الحزن إلا أعمارنا المسروقة، التي منعنا خلالها حتى من التنفّس، وحاولنا فعل ذلك اصطناعياً عبر "بي بي سي"، وعندما وجدنا البديل، أو للدقّة التعويض الأصيل، تخلينا وعزفنا عنها.