رائد الفارس وفكرة الثورة

28 نوفمبر 2021
+ الخط -

قبل ثلاث سنوات، 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، أقدم العضو الأمني في جبهة النصرة، عبد الله الحمود، والعضو الشرعي، جهاد الحسيني، على اغتيال الثائر، ابن مدينة كفرنبل، رائد الفارس ورفيقه حمود جنيد. ومنذ اليوم التالي لجريمة الاغتيال، جرى تداول العبارة التي قالها رائد ذات يوم "الثورة فكرة والفكرة لا تموت" كما لو أنّها قولٌ مأثور صادر عن فيلسوف كبير. 
يؤكّد الأصدقاء من أبناء مدينة كفرنبل الذين يعرفون رائد عن قرب أنّه كان متواضعاً، وأبعد ما يكون عن الادّعاء والتفلسف، لكنّه قال هذه العبارة في موقف الدفاع عن الثورة. إنّها مقولة ثورية، إذاً، ومن الطبيعي أن يكون لنا حق في مناقشتها. نتساءل: هل حقاً الثورة فكرة؟ أرجّح أن يكون الجواب لا؛ لأنّ الفكرة تنتج عن تفكير شخصي، فردي، صرف، أي أنّها تتشكّل في عقل إنسان فرد، بينما الثورة اندفاعٌ بركاني يقوم به شعب، أو شرائحُ واسعةٌ من الشعب قد يبلغ عديدها الملايين، فكيف تخطر الفكرة نفسها لملايين الناس دفعة واحدة، ويهبّون لترجمتها على الأرض على هيئة تظاهرات، وعصيان مدني، وهجاء النظام السياسي القائم والمطالبة بإسقاطه؟ 
وإذا فرضنا جدلاً أنّ الثورة فكرة "جماعية"، أليس حريّاً بالذين خطرت لهم أن يأخذوا وقتاً لتقليبها على وجوهها المختلفة، أي أن يتشاوروا في أمرها، ويتساءلوا: ما هو نوع الثورة التي سنقوم بها؛ سلمية أم مسلحة؟ وما هي توجّهاتها الفكرية؛ إسلامية أم ليبرالية ديمقراطية؟ وعلى الصعيد الاقتصادي؛ رأسمالية أم اشتراكية؟ وما هو شكل الدولة التي نريد أن ننجزها؛ مركزية أم فيدرالية، أم ملكية دستورية، أم جمهورية ديمقراطية؟ وما هي حدودها، وكيف تُرسَم خريطتها؟ وإذا انطلقنا بالثورة، كيف سنتصرّف لنُظهر عدالتها ومشروعيتها أمام شعوب العالم؟ ومَن هم الأدباء والمفكرون والخطباء الذين سنعتمدهم ليتبنوا صوتها، أو خطابها، ويوصلونه إلى المحافل الدولية؟ وكيف يَستقطب الثائرون الشرائحَ المجتمعية الأخرى التي لم تخطُر لها "فكرة" الثورة أساساً، أو ربما خطرت لها ولكنها لا تؤمن بها، أو تعاديها، أو تتخوّف من عقابيلها؟ 
التوصيف الوحيد الذي أنتجته الثورةُ السورية (ضحّى رائد الفارس بحياته في سبيلها) خلال عشر السنوات الفائتة، أنها "ثورة كرامة". حسناً، المفروض ألا يختلف رجلان عاقلان على أن تحقق الكرامة يبعث على الفرح والسعادة لدى أبناء الشعب، ونقصان الكرامة يولّد الاحتقان، وتراكم الإذلال يؤدي إلى الانفجار.. ولكن كرامتنا، نحن السوريين، لم تكن مهانةً في ظل حكم عصابة الأسد وحسب، بل كانت مُداسةً تحت الأحذية. ومع ذلك، استمر حكم الأب ثلاثين سنة، وأورث البلاد، بسلاسة، لولده القاصر. وهكذا، مرّت أربعون سنة ولم نثُر، بل العكس صحيح، فقد كان حافظ الأسد (ووريثه) يمتلك قدرةً استثنائيةً على إخراج مليون سوري، متى يشاء، في مسيرات تأييد، تلتقط الكاميرات بدايتها وتعجز عن الوصول إلى نهايتها... هنا، لا بد أن يتطوّر السؤال ليصبح: لماذا نقتصر على تسميتها ثورة كرامة، ولا نتحدّث عن الحرية، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون، والتداول السلمي للسلطة؟ 
ثم؛ من قال إنّ الأفكار لا تموت؟ فكرة وأد البنات التي جاء في الأخبار أنها كانت موجودة قبل الإسلام، مثلاً، ماتت. لا شك في أن معظم رجال الأمتين العربية والإسلامية يظلمون النساء، ويسلبوهن حقوقهن، وكثير من الإخوة والآباء يقتلون الفتاة تحت ما عرف باسم "جرائم الشرف"، ولكن فكرة الوأد، بمعناها الحرفي، ماتت. الأصنام، والأنصاب، والأزلام، والجواري، والإماء، كلها انقرضت. يا سيدي، والثورات نفسها تموت، وياما شعوب قامت بثورات قُمعت، وأخفقت، وعاد النظام الحاكم في بلادها أقوى مما كان عليه. والأهم من هذا كله أنّ صاحب فكرة الثورة التي لا تموت، رائد الفارس، قتله أناسٌ احتلوا البلاد بأسلحتهم، نتيجة ثورته هو.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...