رؤية في "لمّ الشّمل" و"اليد الممدودة" الجزائرية
من الصعوبة بمكان، في ظل الظروف الحالية في الجزائر، الوصول إلى سبر أغوار الدعوة القادمة من السلطة إلى "لمّ الشّمل"، أو ما قد يطلق عليها، في لغة السياسة، دعوة إلى الحوار مصاحبة لإجراءات تهدئة تسهّل تلك المقاربة، وتوصلها إلى النّجاح، أو تقترب من ذلك ما أمكن، بما أنّ السياسة، في النّهاية، فنّ الممكن.
على المستوى النظري، تصاحب حركية التغيير مقاومةٌ من السُّلطة قد تتجاوز، أحياناً، مجرّد رفض المطالب، باستخدام أدوات الاعتقال، المحاكمة والمتابعات القضائية، كذلك فإنها تنظر في تلك المطالب حيناً بعين الرّضا، لأنّها إشارات تحذير من أن الوضع يحتاج إعادة نظر ومراجعة على المستويات كافة، بالنسبة إلى ملفاتٍ بات من المنطقي أن السلطة فاشلة في إدارتها، ومنها الملف السياسي (المشاركة، حرّية التّعبير، فتح المجال الإعلامي، الحرّيات الأساسية، إلخ)، بل إن تلك الإشارات هي، في حد ذاتها، من أدوات الاتّصال الممكنة والمتاحة، بالنّظر إلى انكفاء السلطة على نفسها وعدم تواصلها مع المجتمع المدني وعدم إحاطتها، بالتّالي، بما ينضح داخل القدر الاجتماعي من إشكالاتٍ يجب النظر فيها وتعديلها، مراجعتها أو التوافق بشأن مسار التّداعيات المحتمل أن تتولّد عن عدم الأخذ بالاعتبار لتلك الإشارات وانعكاساتها على المجتمع والسلطة، كليهما، على حدّ سواء.
على المستوى النّظري، أيضاً، هناك ظاهرة عدم الاستقرار وكيف تتولّد، حتى نكون على حذر من أنّ بوادرها قد تكون مقدّمات لما هو أكبر وأدعى إلى التّأثير على المسار التوافقي والانسجام المجتمعي، ومن مكونات تلك الظّاهرة من انتشار مظاهر عدم المساواة، الفساد، البطالة، تردّي الخدمات الاجتماعية، غياب المشاركة والعزوف عنها حال المواعيد الانتخابية، إضافة إلى غلق مجالات التعبير، ما قد يوجِد، بدايةً، التداعيات ذات العلاقة بالإحباط، ثم تتطوّر لتصبح احتقاناً يكفي أن توجد شرارةٌ ما لتشعل الوضع، وتذهب به إلى ما لا تُحمد عقباه. وهنا مربط الفرس، لتتلاقى الرؤية الاستباقية للسلطة مع تلك الإشارات الصادرة عن النخبة، المجتمع المدني وقنوات الوساطة بين تلك السلطة والشعب لرسم مسارات التقاط أجراس الإنذار واحتوائها قبل أن تصبح قنابل موقوتة، لا يُعلم إلى أين ستؤدّي إذا انفجرت في شكل فوضى، احتجاجات لا يمكن الإحاطة بمطالبها أو تغيير عاصفٍ لا يُدرى مداه، أيضاً.
حتى لا نكون سوداويين، ولا حاملي أخبار سوء، يمكن القول إن تلك الإشارات أو أجراس الإنذار موجودة فعلاً في الجزائر، منها ما هو مرتبط بالسّياق الدّاخلي (سياسية، اقتصادية، اجتماعية وتداعيات الحراك)، ومنها ما له علاقة بالسياقين، الإقليمي والدولي (تغير بنية النظام الدولي، ضغوط أمنية وأخرى ذات طبيعة سياسية، إضافة إلى ما يجري على المستوى الجواري بين الجزائر والمغرب، من ناحية، بشأن قضية الصحراء الغربية، والمتغير الجديد، دخول الكيان الصهيوني معترك ذلك الخلاف الجواري وتداعياته الاستراتيجية، بصفة خاصة، من ناحية أخرى.
تصاحب حركية التغيير مقاومةٌ من السُّلطة قد تتجاوز، أحياناً، مجرّد رفض المطالب، باستخدام أدوات الاعتقال، المحاكمة والمتابعات القضائية
تؤثّر تلك السّياقات، كلّ على مستوى محدّد، بالجزائر، وتستدعي انسجاماً داخلياً يفرّغ تلك الضُّغوط من محتواها، لأنّ أيّ احتقان داخلي، أيّاً كان مصدره، يمكّن، إذا لم يجرِ تحييده، من تشكيل مكمن تهديد على تعامل السّلطة مع تلك المعطيات، وهو ما يكون قد ولّد الرّغبة لإطلاق مشروع "لمّ الشمل" أو "اليد الممدودة"، لأن التوافق الداخلي كفيلٌ بتحويل تلك التحدّيات إلى عوامل دفع لبناء مشروع يشارك فيه الجميع، ويكون بمثابة استدعاءٍ لدواعي الوطنية وخدمة البلاد، على الرغم من كل الخلافات التي هي طبيعية في مسار رفع التحدّيات وبناء التغيير، بل إنّ كل فترة من الفترات، في تاريخ أيّ بلاد، هي في حاجة لذلك لتجديد النّخب، ضخّ دماء جديدة في جسم الأمة، ومن ثم، الانطلاق إلى فضاءات أرحب من دون خسارةٍ ما لأي من مكونات المجتمع، مهما بلغت تلك الخلافات من العمق أو تولد منها من مطالب التغيير.
نأتي إلى تلك الهمسة التي يمكن إرسالها إلى القائمين على المبادرة التي لا يمكن إلا أن تُمدح، في الأساس، لكن مع التنبيه إلى إنّ المبادرة مسار قبْلي، إجراءات مرافقة، وبعْدي، أي جملة من التوافقات، بين طرفين يعرف كلٌّ منهما الآخر: السلطة والمعارضة (ممثلون للحراك، مجتمع مدني، طبقة سياسية وشخصيات وطنية)، والإطار هو تشارك في حوارٍ يحمل طابع التفاوض، بمعنى عرض لقائمة من الإجراءات والبحث عن إمكانيات الاستجابة لها، انطلاقاً من إجراءات تهدئة (تكون قبل انطلاق تجسيد المبادرة)، وقد تكون عملية إطلاق بعض السّجناء من الحراك، ووقف المتابعات القضائية، مقدمةً لنشر روح الصدقية في المسار المرافق، ثم المخرجات.
وبالنسبة إلى الرؤية، وخصوصاً بعد اتضاح معالم مبادرة لمّ الشمل، مع حديث قائد الأركان، اللواء سعيد شنقريحة، عنها في خطاب له، ونشر وكالة الأنباء الجزائرية، الرسمية، بعضاً من تلك المعالم، وإن لم تكن واضحة تمام الوضوح، يمكن تقديم ما يمكن اعتبارها مقدّمة لتجسيد روح التوافق داخل صفوف المجتمع، لأن الخلافات، بداية، كانت ذات طبيعة سياسية، جرى التعبير عنها في إطار حراك حضاري، لم يسبق للعالم أن عرف مثله، حقيقة، لأن مسيرات بحجم مليونيات، لأكثر من عام (لولا قدوم الجائحة)، لم توقع جريحاً واحداً، كما لم توقع أية خسائر في الممتلكات، جديرة بأن تتولد منها إعادة تفكير في المنظومة الحكمية، برمتها، ونحن على مقربةٍ من الاحتفال بالذكرى الستين للاستقلال (05 يوليو/ تموز المقبل)، بما فيها وصول البلاد إلى ما يمكن اعتباره منعرجاً لبناء الجمهورية الثانية.
المهم أن الجميع عمل للوطن، في إطار الوطن وضمن ثوابت الوطن دون استدعاء عامل مغالبة غير قانوني
تكون الرؤية، تبعاً لما تقدّم، مبنيةً على تحويل المسار، بكل محتواه، إلى أجندةٍ واضحة المعالم بإجراءاتٍ على المدى القصير، والمديين المتوسط والطويل، وتتكرّس بها عملية التغيير، تحتاجها البلاد بصفة حيوية، وتكون مقدّمة لمشروع العروج إلى مكانة القوة الإقليمية، مع تصفير المشكلات على السياقين، الدّاخلي والخارجي، بقصد التفرّغ لرفع التحدّيات، وبلوغ تلك المكانة.
هناك الإمكانات، وهناك، أيضاً، المكون البشري الكفيل بإيصالها إلى تجسيد المطلوب، وتكون الواسطة هي صدقية الرؤية وتحويلها إلى ميكانيزم للوساطة، عند نشوب الخلاف، في إطار من التداول على السُّلطة عبر الصندوق، ليس إلا، وبسواعد الجميع من دون إقصاء أو تهميش لأحد أو فصيل، حقيقة لا مجازاً.
هذه بعض من أفكار جرى العمل بها، واستعراضها في إطار رؤية لمبادرةٍ لا يمكن إلا أن تشكل مخرجاً جديداً لأزمةٍ من الطبيعي أن تنشب بين أبناء البلد الواحد، لأن المهم أن الجميع عمل للوطن، في إطار الوطن وضمن ثوابت الوطن دون استدعاء عامل مغالبة غير قانوني، ومن دون استقواء بطرفٍ غير وطني، لأنّ الحيوي، حقيقة، تمسّك الجميع بتلك الثوابت التي، لحسن الحظ، تتوافر في بلد له زخم من المعطيات، يجري الرّجوع إليها للوساطة عند الخلاف، وفي مقدمها ذلك التّاريخ المشترك، معرفة العدو التّاريخي (فرنسا) والهدف المنشود: قوة إقليمية بعمق مغاربي، وامتداد ساحلي - صحراوي.
يكون الموعد، بالنتيجة، تجسيد المقاربة والاحتفال بمخرجاتها مع الموعد التاريخي المبارك، ذكرى الاستقلال الستين، وكفى بها من ضامن للتوافق بين أبناء البلد الواحد.