ذهَبُ الرفض وتنَكُ التطبيع

14 اغسطس 2022
+ الخط -

شاءت المصادفة أن يتزامن في الأردن حدثان لافتان في يوم واحد. الأول، انسحاب لاعبة تايكواندو أردنية من مواجهة لاعبة إسرائيلية كان يفترض أن تلعب لمنافستها على المركز الثالث في بطولة دولية في بلغاريا. الثاني، مصادقة الحكومة الإسرائيلية على اقتراح رئيس الوزراء، يئير لبيد، بتسريع تنفيذ مشروع اقتصادي ضخم بين إسرائيل والأردن.

في الشطر الجميل من المصادفة، قرّرت اللاعبة الأردنية، ميسّر الدهامشة، التي قطعت شوطًا مظفّرًا في بطولة بلغاريا، من خلال المنافسة على الميدالية البرونزية، أن تنسحب، حين اكتشفت أن منافستها سليلة العدوّ الأول للأمة، وسيظلّ كذلك، حتى يحلّ أوان التحرير، على الرّغم من أن الدهامشة تلعب ضمن فريق الناشئين، الذين تقلّ أعمارهم عن عشرين ربيعًا، أي من جيلٍ جديدٍ لم يختبر ما عاناه جيل الآباء من هذا العدوّ المتوحش، غير أن ما لا يدركه المراهنون على "النسيان" أن العداء لإسرائيل أصبح مكوّنًا جينيًّا تتوارثه الأجيال العربية أبًا عن جدّ، وولدًا عن والد، فكيف وميسّر الدهامشة جارة لفلسطين، ومطلّة عن كثبٍ، على جرائم الاحتلال اليومية. والأهمّ أن هذا الانسحاب الذي يفوق "الهجوم" اعتبره الأردنيون نصرًا، وتصدّر وسم نجمة المنتخب الوطني للتايكواندو للناشئين #ميسر_الدهامشة، قائمة أكثر المواضيع تداولًا على منصّة تويتر الأردن، معبّرين عن فخرهم واعتزازهم بخطوة اللاعبة الدهامشة، ووصفوا ما فعلته بأنه "أغلى من الذهب".

أما في الشطر القبيح من المصادفة، فقد مرّ خبر مصادقة الحكومة الصهيونية على تسريع تنفيذ المشروع الاقتصادي المشترك، من دون أن يلفت انتباه أحد، على الرغم من أن فكرة المشروع قديمة نسبيًّا، ووردت صيغتها الأولى في اتفاقية وادي عربة في تسعينيات القرن الماضي، غير أن التنفيذ تأجّل، ربما لخجلٍ رسميّ أردني كان ينتظر تغلغل التطبيع عميقًا في نسيج المجتمع أولًا، وجعله شأنًا اعتياديًّا لا يثير حفيظة الشعب ونقمته.

والمفارقة الجارحة هنا أن الإعلام المحلّي الأردني تناول زيارة يئير لبيد أخيرا عمّان، التي سبقت مصادقة الحكومة الإسرائيلية على اتفاقية التسريع، من باب "التقريع" الذي اعتاد عليه المواطن، على غرار "تشديد" المسؤولين الرسميين الأردنيين على نظرائهم الإسرائيليين بضرورة "التهدئة"، و"وقف التصعيد"، وكأنّ لبيد استدعي على عجلٍ إلى عمّان بهدف "التوبيخ" فقط، ثم ظهرت حقيقة أهداف الزيارة، عندما فضحها الإعلام العبري، بكشفه أن الزيارة كانت للتعجيل بهذا المشروع الذي يتألف من إنشاء منطقة صناعية مشتركة عند منطقة حدودية، كما قال لبيد نفسه الذي قال إن زيارته عمّان كانت تتوخّى هذا الهدف تحديدًا، فقد تم فيها، بحسبه، "الانتهاء من التفاصيل النهائية للمشروع"، فقطع على الإعلام الرسمي الأردني الطريق نحو مزيدٍ من التضليل والمواربة.

في المحصلة؛ كان الحدثان متناقضيْن تمامًا، الأول مثّل موقف اليافعة البطلة ميسر الدهامشة ردّا شعبيًّا لا لبس فيه على الرهان الرسمي الأردني على تغلغل التطبيع في نسيج المجتمع. وفي موقف البطلة الذهبية، ردّ أيضًا على لبيد نفسه، الذي حاول أن يغلّف تصريحاته بطابع "تاريخي" حين تحدث بزهو عن مرور 28 عامًا على اتفاقية "السلام" مع الأردن، فجاء موقف الدهامشة صادمًا له، عندما اكتشف أن التقادم الزمني لم يلغ حقيقة الرفض الشعبي الواسع أي تطبيع مع الكيان الصهيوني، ولو على مستوى "الروح الرياضية"، لأن الأردنيين يعرفون تمامًا أنهم يتعاملون مع كيانٍ بلا روح أصلًا، بل مع آلة قتل وتدمير وتهجير"

في المصادفتين، تعارك "ذهب الرفض" مع "تنك التطبيع"، وكان لا بدّ أن يفوز الذهب.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.