ذكرى فخري بيك البارودي
صادَفَتْ يوم الخميس الفائت (2 مايو/ أيار) الذكرى الثامنة والخمسون لرحيل الأديب الصحافي الفنّان، فخري بِك البارودي (1887- 1966)، الذي كان له تأثير كبير في الحياة الثقافية والسياسية السورية، في النصف الأوّل من القرن العشرين، وحتّى وفاته، وأحد مؤسّسي "الكتلة الوطنية" التي كانت تناهض الانتداب الفرنسي، وتناضل من أجل استقلال سورية. وجدير بالذكر أنّه ابتعد عن عالم السياسة منذ خروج الفرنسيين من سورية 1946، وتفرّغ لنشاطاته الأدبية والصحافية والموسيقية.
الفصل الأجمل في سيرة فخري بيك، برأي محسوبكم، ذو علاقة بالتعليم، فقد اهتم والده، محمود بيك، بصحّته وتعليمه منذ صغره، فخصّص له مُربّين، ومعلمين ومُؤدّبين، واهتم كذلك بصحّته، فعيّن له مُشرفين صحّيين وطهاة. وجعل هذا الاهتمام الأب يواجه ما يكره، فقد كان يريد أن يُبقي ابنه الوحيد إلى جواره، ولكنّ نفسَ الابن انفتحت على العلم، فما إن أكمل دراسته في المدرسة العازارية، ثمّ في مكتب عَنْبَر، حتّى بدأ يفكّر في السفر إلى فرنسا، لمتابعة التخصّص في الهندسة الزراعية، ولكنّ محمود بيك رفض بشدّة، فهرب في سنة 1911 إلى فرنسا، وبدأ دراسته في جامعة مونبلييه، فما كان لدى والده من حيلة سوى قطع "الخرجية" عنه، ففعل، وأرغمه على العودة إلى دمشق، ومن الطريف أنّه كتب على جدار دار والده عبارة: "تعلمْ يا فتى فالجهلُ عار".
كان مفهوم العار في بلادنا، ولا يزال، مُتعلّقاً بما قد تفعله امرأة خارج إطار الزواج، ولكن أن يرفع البارودي الجهلَ إلى مستوى العار، فهذه نقطة لمصلحته، تُضاف إلى إنجازاته الكثيرة في مجالات الإبداع المُختلفة، منها الصحافة، فقد أحدث صحيفة ساخرة، سمّاها "حُط في الخُرْج"، وكان يمتلك شجاعة استثنائية خوّلته أن يكتب افتتاحيات صحيفته بلغة أهل دمشق العاميّة، في زمنٍ كانت الفصحى شبه مقدّسة.
وكانت لفخري بيك مساهمة كبيرة في إحداث إذاعة دمشق، في فبراير/ شباط سنة 1947، وقد ذاع عنه وَلَعُه برعاية الفنّانين أصحاب المواهب الكبيرة، مثل سلامة الأغواني، وفهد كعيكاتي (أبو فهمي)، ونُهاد قلعي الذي استعار طبقة صوت البارودي المميزة (سوبرانو) في أثناء تجسيده شخصية "حُسني البورظان". وأمّا المطرب الحلبي، صباح أبو قوس، فقد ساعده البارودي على الظهور في العاصمة، وخصّص له راتباً شهرياً، وأحضر له مُعلّمين لتثقيفه موسيقياً، ورتّب له حفلة غنّى خلالها بحضور رئيس الجمهورية شكري القوتلي. وبالمناسبة، البارودي هو من أطلق عليه اسم صباح فخري.
كان فخري البارودي عاشقاً لسورية، قد لا يمر يوم في حياته من دون أن يقدّم لها شيئاً، ففي 1934 أحدث مكتب البارودي للدعاية والنشر، ووظّف عنده مُثقّفين كثيرين، منهم ناظم بيك القدسي، الذي أصبح رئيساً للحكومة في عهد الوحدة مع مصر، ورئيساً للجمهورية السورية بعد الانفصال عن مصر (1961 ــ 1963)، وكان له الفضل في إحداث مشروع "الفرنك" (1934)، وكذلك مشروع "صُنِعَ في سورية"، وأسّس، مع المحامي أحمد عزّت، معهد الموسيقى الشرقية، وكان مقرّه في سوق ساروجة الأثري. ومما يرويه المحامي المرحوم نجاة قصّاب حسن، في كتابه "جيل الشجاعة.. حتى عام 1945" (1994)، على سبيل النكتة، أنّ خلافاً نشأ في إحدى سهرات المعهد بين البارودي وأحد الحاضرين، بشأن مفتاح السلّم الموسيقي الشرقي، فقال البارودي إنّه مفتاح "صول"، وعانده الآخر قائلاً إنّه مفتاح "فا" وانتهت السهرة، وغادر الجميع المعهد، وبعد مُضيّ ساعة تقريباً، رنّ جرس الهاتف في منزل البارودي، وعندما رفع السماعة، وجد على الخط ذلك الرجل المُعانِد. أعلمه أنّ الجميع غادروا، وأقفلوا الباب بينما كان هو في "التواليت"، وأضاف: أرجوك، يا فخري بيك، أرسل إليّ مفتاح المعهد مع مَنْ تشاء لكي أخرج وأذهب إلى منزلي. فضحك البارودي ضحكاً شامتاً، وقال له: يا تَرَسْ (شتيمة غير جارحة) خلي مفتاح "فا" ينفعك (!)