11 نوفمبر 2024
"ذا بوست".. سينما أقل لحريةٍ أكثر
فنيا وجماليا، إخراجا وتصويرا، إيقاعا وتكنيكا، فيلم "ذا بوست" (صحيفة واشنطن بوست اختصارا) جيدٌ فحسب، أي بلا فتنةٍ باهرة، بلا سينما عالية. لا تُشاهد فيه مثل الضربات الساحرة، والمثيرة الشائقة، في أفلامٍ عديدة لمخرجه اللامع (والشعبي)، غزير الإنتاج، ستيفن سبيلبيرغ. لا لشيء، إلا لأن العمل نفسه لا "يتطلب" تكلفّا في بنائه ومساره، وكان سيفشل لو تقصّد تصنّع جمالياتٍ زائدة، وابتدع تخييلا فائضا. تدور معظم وقائعه في صالة التحرير في الصحيفة الأميركية العتيدة، وفي غرفٍ وردهات. وعلى ما فيه من بعض التشويق، ومن مواضع الانفعال والتوتر التي زادت الموسيقى التصويرية مقادير التعبير الحاذق فيها، فإن "ذا بوست" (116 دقيقة) ليس جذّابا بالمعنى الجماهيري، وأيضا بالمعنى الذي احترف سبيلبيرغ الوفاء له، في عدة أفلامٍ له حقّقت المعادلة التي تُوازن بين استحقاقات السوق وفن السينما نفسها بوصفها إبداعا، "إنقاذ الجندي رايان" (1999) مثلا، الذي حاز جائزة أوسكار لأفضل فيلم، كما أفلامٌ أخرى استحقّ سبيلبيرغ عليها هذه الجائزة ومثيلتها لأفضل إخراج. وللأسباب هاتِه، جاء طبيعيا أن لا يحرز "ذا بوست" سوى ترشيحٍ واحدٍ فقط لجائزة أحسن فيلم للأوسكار، الثلثاء الماضي، وكذا خلو قائمة الترشيحات لأحسن مخرج من اسم سبيلبيرغ، المخرج السبعيني، صاحب التجربة المثقلة بمثل هذه الجوائز الرفيعة.
ساهمت أسماء سبيلبيرغ وميريل ستريب وتوم هانكس في الإقبال على مشاهدة "ذا بوست" الواسعة في العالم، غير أن انشغال الفيلم بموضوعة حرية الصحافة كان دافعا لأن يشاهده ملايين النظّارة في الولايات المتحدة (35 مليون دولار في الأسبوع الأول لعروضه في أميركا)، لاسيما في هذا الوقت، حيث حرب الرئيس دونالد ترامب على الصحافة. وهذا توم هانكس، الذي أدّى دور رئيس تحرير "واشنطن بوست" في زمن وقائع الفيلم، بن برادلي، يقول إن "ذا بوست" فيلم وطني جيد جدا عن حالة أميركا الآن. والرسالة غير الخافية التي يقصد إشهارَها سبيلبيرغ، الليبرالي الأميركي اليهودي، نصير الحزب الديمقراطي وصديق هيلاري كلينتون وزوجها، هي الانحياز إلى الصحافة وحريتها، أمام أي سلطةٍ، سياسيةٍ أو مالية. وثمّة أيضا ما هو غير مستترٍ في الفيلم، ففيما القصة فيه عن إصرار "واشنطن بوست" في العام 1971، ضد إرادة البيت الأبيض والرئيس ريتشارد نيكسون، على نشر وثائق تفضح كذب سلطات أربعة رؤساء على الأميركيين، بشأن الحرب في فيتنام وغيرها، وتضليلها الرأي العام، فإنه يُختتم بأن نيكسون اضطر إلى الاستقالة في 1974، بعد معركة الصحيفة نفسها معه، بشأن تجسّس رجاله، بموافقته، على الحزب الديمقراطي (فضيحة ووترغيت). وهي استقالةٌ لا يستبعد سبيلبيرغ أن يُجبر ترامب على مثلها. و"واشنطن بوست" تواظب، بهمّةٍ نشطة، في التصويب على هذا الرئيس.
استعادة القديم والعتيق، التاريخي والقريب، اختبارٌ ثقيل لصنّاع الآداب والفنون، ولمنتجي الإبداعات التي تمتح (عذرا لهذا المبلغ من الفصحى) من وقائع معلومة، ومدوّنة، ومشهورة، من الماضي. وكثيرٌ من الإيقاع الأميركي في مطالع السبعينيات حاضرٌ في فيلم سبيلبيرغ هذا. وأكثر منه، ثمّة ما يشدّنا، نحن المشتغلين في الصحافة اليومية، المكتوبة تحديدا، إلى هذا الشريط، ليس فقط أنه عن الكباش المديد والباقي بين الصحافة والسلطة، ولا عن العلاقة العويصة بين الرأسمال مالك المؤسسة الصحافية وهيئة التحرير، وإنما أيضا لأن صالة التحرير ومكاتب الصحافيين تخلو من الحواسيب، ولا إنترنت ييسر العمل، ولا هواتف نقالة بين أيدي العاملين.. الورق الكثير والآلات الكاتبة وتصميم الصفحات اليدوي، وتفاصيل أخرى يعرفها المخضرمون منا. وبعيدا عن هذه النوستالجيا التي يُشيعها "ذا بوست" فينا، نحن أصحاب الكار، فإن أسفا وفيرا يغشانا، لأن الحيوية البديعة في العمل الصحافي، والاندفاعة الشائقة في الدفاع عن حرية النشر وسلطتها أمام أجهزة السلطة ودواليبها، نادرتان في صحافاتٍ عربيةٍ، عتيدةٍ ومستجدّة، ابتذلت نفسها للرثاثة في ذيليّتها، ورداءة سوقيّتها.
.. حاشية: كل الاحترام والتقدير للأسباب الوجيهة التي أعلنها في لبنان داعون إلى مقاطعة "ذا بوست". لا يليق التبخيس من جهدهم، ولا ازدراء قناعاتهم، الوجيهة في مطارح كثيرة بشأن مُخرج الفيلم.