ذاكرة الأقدام والحركة
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
من يسافر في مدن العالم الأوروبي، بغربه وشرقه (وأستراليا ونيوزيلندا)، يرى كيف أن البلديات هناك تولي اهتماماً لموضوع المشي، إذ تُهيئ لرياضتي المشي والدرّاجات الهوائية أماكن مثالية للحركة.
ومن يتأمل في ذاكرة الحركة في ثقافتنا العُمانية التقليدية يرى أن هناك اهتماماً فطرياً بهذا الأمر، بوجود مساحاتٍ عامةٍ في غاية الأهمية لممارسة الحركة وأنشطة العمل، حسب الأحجام والخصوصيات الجغرافية والطبيعية والنشاط البشري والزراعي الموجود في ذلك المكان وتلك القرية، فمن المرافق الموجودة للمشي ما يسمّيه الأهالي "الرم"، الذي نجده في مداخل القرى، وساحات الاحتفالات كالأعياد والرزحات والمخارج والعزوات ومراكيض النوق والأحصنة. وهناك أماكن الشريعة في الفلج، وأماكن أحواض السقاية التي تستخدم للسباحة (أو اللجل) وأماكن استخدام المحاصيل (أماكن التجفيف) وأماكن التخزين والتبسيل، وأماكن للرحى والطحن وأماكن التنور، وقد يكون أكثر من تنور في القرية والبلدة، وخصوصاً في مواسم تبسيل التمر. إلى جانب فضاءات السبل، فضلاً عن الأماكن المحيطة بالاستحكامات العسكرية، مثل القلاع والحصون والأبراج والأسوار، وأماكن الأسواق والمساجد وأوقافها. هذا كله داخل محيط البلدة ومساحاتها الداخلية أو على حوافّها القريبة وضمن حدودها، وإن كان بعضها خارج مناطق الزراعة، ولكنه ضمن حدودها. وهي أماكن عامة للجميع، لا يمكن استغلالها من فرد واحد، فالاستفادة منها جماعية دائماً.
لذلك، لا يجب أن يغفل التفكير في إنشاء البيوت والشوارع الحديثة عن إيجاد بدائل لهذه الحركة التي اعتاد عليها المجتمع، وخطّها لنفسه على مرّ الأجيال والحقب. إلى درجة أنه كان باستطاعة القروي (في عُمان مثلاً) أن يمشي في دروب القرية في الظلام الدامس، من غير أن يخاف غدر الطريق. وليس الأمر هكذا في شوارع الحواضر المخترقة بالسيارات، حيث سيتحرّك الماشي على هامش ما توفّره هذه السيارات من أرصفة جانبية.
الحاجة مهمّة لمساحات يملكها الجميع ويشترك فيها الجميع، من مشاعات المدينة، كالشوارع والساحات والأرصفة والحدائق. كما كان يشعر الفرد، كل فرد في القرية العُمانية، أنه يمتلك شيئاً من هذا "الرم"، وأنه حين يمشي عليه يضع خطواته على شيءٍ يخصّه، شيء منه، شيء يذهب فيه ويعود بحرية.
أول نادٍ كان "نادي النجوم" في منطقة وادي عدي بمسقط. كنتُ قبل ذلك متفرّجاً خجولاً، إذ لا يسمح لنا الكبار باللعب. في مدرسة سلطان بن أحمد الابتدائية بمطرح في بداية السبعينيات كنّا نشاهد المباريات من حافّة السور، وكان طفلٌ يكبرني اسمه عبد الله يحمل في يده بوقاً، ويقف في أعلى الجدار، وهو ينقل إلينا مشاعر اللاعبين. كان ينقل بصوته كل شيء، كل التفاصيل مثل حكّاء يستعرض معركة من معارك عنترة العبسي. وكنّا نذهب كذلك لمشاهدة المباريات من أعلى سور مدرسة حسان بن ثابت الإعدادية المطلّ على الساحة الواسعة للمدرسة، لأن أخي الأكبر مبارك (رحمه الله) يلعب هناك. وحين انتقلنا من مطرح إلى وادي عدي، كان نصف الفريق يلعب حافياً تحت الجبل.
طُردت يوماً من الملعب، لأني لا أجيد اللعب. قلت لهم اجعلوني حارساً، فقال لي كابتن فريق النجوم: "لا أظنك تصلح للعب، هذا فريق النجوم". وفي المساء، وجدتُني أذهب إلى منزل الكابتن وفي يدي رسالة عنونتها بـ"شبه تحذير". كنت غاضباً والحنق والغيض يملآن صدري الصغير. كتبت: "لن تستطيعوا أن تلعبوا بدوني، لأنكم ستبذلون جهداً في البحث عن شظايا الزجاج التي سأدفنها في تراب الملعب". أودعت الرسالة لدى أم الكابتن، ثم ذهبت وحيداً إلى الملعب. كنت ما إن أرى زجاجة فارغة حتى أحملها معي. كسرتُ الزجاجات ودفنتها في الرمل، ورجعت إلى البيت.. في اليوم التالي جاء الكابتن إلى بيتنا وهو يضحك صارخاً: "إذا كان هذا شبه تحذيرك فكيف سيكون تحذيرك؟ يا أخي، لقد جعلتنا نلعب ونحن خائفون، وضيّعنا وقتنا في البحث عن الزجاج. تعال والعب حارساً". لعبت ولعبت ولعبت معهم، وصرتُ حارساً عنيداً للفريق. وذات يوم حصلتُ على زجاجة كوكا كولا كبيرة في دوري فرق "وادي عدي" كأحسن حارس، ولكني فرّقت محتويات الزجاجة بين أعضاء فريقي. ولكن لقب "شبه تحذير" ظلّ يرافقني. إلى أن تفرّقت أيدي سبأ، وشقّ كل منا طريقه إلى المجهول، واتّسعت بنا الحياة وتشعّبت.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية