ديك منفوش الريش

15 ابريل 2024

(أسادور بزديكيان)

+ الخط -

على إثر اندلاع شجار روتيني جديد، اعتادته منذ الأشهر الأولى لزواجهما حين اكتشفت أنّ فترة الخطوبة، التي امتدّت سنة من الزيف والادّعاء والمجاملات والكذب، لم تكن كافيةً لتفضح طبيعته السلطوية الذكورية المستبدّة، وبسبب اعتذارها عن مرافقته في زيارة ابنة عمّته لتأدية واجب تهنئتها بمولود أنجبته أخيراً. قالت له: "أنت تعرف أنّني لا أطيق ابنة عمّتك وهي كذلك لا تطيقني، لسنا صديقتين، لذلك، ليس من واجبي مجاملتها لمجرّد أنّها تَمُتُّ إليك بصلة قرابة، بإمكانك الذهاب وحدك وقضاء بعض الوقت مع زوجها الذي هو صديقك". صرخ في وجهها محْتدّاً: "اسمعيني جيداً، أنا رجل البيت وصاحب الكلمة، أنا أقرّر وأنت تنفّذين، هكذا ستسير الأمور. سترافقينني رغماً عن أنفك، أنت زوجتي ومن واجبك طاعتي من دون نقاش، لستُ مثل والدك ضعيف الشخصية (الدندول) المحكوم من زوجته، ولا أريد أن تكرّري نموذج والدتك، سليطة اللسان التي تتّخذ القرارات وتتحكّم في شؤون العائلة. لا يوجد سوى ديك واحد في هذا البيت، عليك أن تفهمي هذا. إذا وُجد ديك آخر فسوف يتصارعان حتى يقتل أحدهما الآخر.
لم تكنْ تلك المرّة الأولى التي يسوق فيها مثال الديكيْن المتصارعيْن حتى الموت. لاذت بالصمت، وهي تحاول ابتلاع إهانته غير المبرّرة لوالديها، وهما عندها، وعند المحيطين كذلك، نموذج حضاري لعلاقة زوجية قائمة على المحبّة والاحترام المتبادل والندّية، وهي التي نشأت في جو أسري قائم على التفاهم والانسجام واحترام كلّ طرف مساحة الآخر، في كنف أب تقدّمي مثقّف لا يعاني عُقَداً ذكوريةً فلم يميّز يوماً بين الأبناء والبنات، ولم يشعر قط بالحرج في التعاون مع زوجته، المرأة العاملة، في تدبير شؤون المنزل من تنظيف وترتيب وعناية بالصغار، وأم قوية الشخصية، شريكة حقيقية لزوجها، تحبّه وتقدّره صديقاً وزوجاً ونموذجاً مشرّفاً متخلّصاً من مفاهيم مجتمعية بالية حول التقسيم النمطي التقليدي البائس للأدوار المفترضة لكلّ من الرجل والمرأة،  فلم يتوانَ يوماً عن الوقوف إلى جانب زوجته في المطبخ، يعدّان معاً الوجبات الشهية، وينظفان الأطباق، ويثرثران مثل أيّ صديقين قديمين. كان يشاركها ما يحدث معه في العمل ويستمع باهتمام إلى آرائها، ويقدّر عالياً كفاحها معه في عُمُرٍ بأكمله، ويعترف بمساهمتها القيّمة في تحسين دخل العائلة، ولا يُخفي إعجابه بتميّزها المهني ويفخر بمنجزها الأكاديمي وأسلوب تعاملها الراقي، من دون شعور بالتهديد لمكانته داخل الأسرة. لم تتخيّل صاحبتنا أنّ نموذج والديها المتحضر والمُختلف عن سياق مجتمع ضيّق الأفق سوف يُفسَّر من زوجها بتلك التوصيفات المتخلّفة التي تعبّر عن عقلية متحجرة عفنة. كان ذلك صعباً على امرأة تربّت على الاستقلالية وعزة النفس وأهمية إثبات الذات أكاديمياً ومهنياً. صمتت، وقد وصلت إلى مرحلة اليأس المطلق، ولم تعد تجد أيّ جدوى في خوض نقاش آخر لن يفضي إلى نتيجة مع رجل مهزوز عديم الثقة بنفسه، مسكونٍ بهاجسِ السلطة ووهم التفوّق البيولوجي، ولا يفترض في زوجته وشريكة حياته سوى القيام بدور الدجاجة المطيعة البيّاضة. لم يكن أمامها سوى أن تغادر هذه العلاقة المسمومة غير الواعدة بأيّ تغير قبل أن تتورط بإنجاب بنات سيتورطن حتماً مع أب يُكِنّ الاحتقار لأنوثتهن، ولن يُقدّم لهن، رغم شهادته الجامعية العليا ومستواه الاجتماعي المرموق، سوى بيئة رجعية قائمة على  التحكّم والقهر ومصادرة الإرادة. 
وبينما الزوج المُغْترّ يواصل ثرثرته حول نظرية الديك والدجاجة، كانت توضّب حقائبها وتغادر البيت الذي حلمت باستمراره ملاذاً دافئاً مستقراً حميماً، من دون أن تُلقي بالاً للديك منفوش الريش، الذي واصل صياحَه الفارغ، حتى إنها لم تفكّر في الالتفات إلى الوراء.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.