دونية نخب عربية وعنصرية توماس فريدمان

11 فبراير 2024
+ الخط -

اللغة الاستعمارية العنصرية المهينة ليست غريبة عن الكاتب في صحيفة نيويورك تايمز، توماس فريدمان. فتشبيه حركة حماس وحزب الله باليرقات التي تنخر في المجتمعات التي تعيش فيها، بما يعنيه ذلك من وجوب سحقها، يتسق تماماً مع دوره مبشّراً وأداةً في خدمة المشروع الصهيوني والأهداف الإمبريالية الأميركية. وليس متوقّعاً من فريدمان وأمثاله موقفٌ أخلاقيٌّ ضد حرب الإبادة في غزّة، بل المتوقع منه تسويغ هذه الحرب وتبريرها، وهذا هو غرضه من نعت حماس وحزب الله والحوثيين بـ"يرقات أفرزتها إيران"، التي يصفها بـ"العنكبوت الطُّفيلي" في المنطقة. والمقصود ليس شيطنة الفعل المقاوم فحسب، بل تصوير ما يحدُث بأنه حرب بدأتها إيران، أي إنكار الاحتلال الصهيوني والحصار وكل تاريخ معاناة الشعب الفلسطيني.

ليست المسألة الموقف من إيران، بل إضفاء شرعية على المشروع الصهيوني الكولونيالي الإحلالي. يستطيع فريدمان فعل ذلك دون التشبيهات فاشية الطابع، ولكنه يقصد ما يقوله تماماً. فتقويض إنسانية المقاومين، وتحديداً في قطاع غزّة، يجعل الصور المرعبة المنتشرة على الشاشات ووسائل التواصل، لأطفال قتلى وجرحى ومبتوري الأطراف، "نتيجة معركة لا بد منها" وليس لإسرائيل وتاريخها على أرض فلسطين ذنب فيها.

ليس هذا كله مفاجئاً، فقد اعتدناه من فريدمان، لكن ما هو واجب في سياق حرب الإبادة المستمرّة، إدانة صمت (وتواطؤ) نخب عربية تحتفي بفريدمان، وتتفاخر بمعرفته وصداقته، وترديد كلماته دون تدقيق أو تمحيص، وكأنه منارة الوعي، فالانبهار بما يراه هؤلاء "تحليلاً استراتيجياً" وعبقرية تعميهم عن فحوى مقالاته، فلا يرون إلا جملاً هنا وهناك توهمهم بأنه متزن ومتوازن ويرى مصلحة العرب والإنسانية في كل حرف يكتبه. والأسوأ أن بعض النخب قد تتفق مع رسالة مقال فريدمان "مملكة الحيوانات في الشرق الأوسط "؛ فهناك أنظمة تتفق معه، لأنها تريد أن تتخلص من "عبء القضية الفلسطينية "، وأنا شبه متأكدة أن مريديه قد يلومونه على التشبيه "غير الموفّق"، ولكنهم لا يهتمّون إلا بتعبير "دولة فلسطينية" للدفاع عنه رسولاً للسلام. فيما الذي يروجه فريدمان الخطة الأميركية للمنطقة التي تربط وقف الحرب على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة ليس بإقامة دولة فلسطينية، بل بالاتفاق على "فكرة" إقامة دولة "وعلى مراحل".

لا يختلف فريدمان في جوهر موقفه عن نتنياهو، فكلاهما يروّج أن إسرائيل تمثل نقطة ضوء حضارية للغرب بين العرب والمسلمين "المتخلفين"

لا يروّج وهماً فحسب، بل هو غير صادق في تأييد فكرة دولة فلسطينية، فالكاتب الصهيوني يؤيد وجود المستوطنات، فيما عدا بعض "البؤر الاستيطانية غير الشرعية". والتعبير نفسه بدعة إسرائيلية تهدف إلى إضفاء الشرعية على كتل الاستيطان الرئيسية، فلا صدقية في طرح فكرة دولة فلسطينية من أي شخصٍ يؤيد استمرار المستوطنات في قلب الأراضي الفلسطينية.

لم يدّع توماس فريدمان يوماً أنه مناصر للشعب الفلسطيني، أو للعدالة، لا في فلسطين أو في أي بقعة، بل كان دائماً مؤيداً ومدافعاً شرساً عن الاستعمار وإسرائيل. وهو في مقاله يختلف تكتيكياً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي وصفه بقردٍ يقفز من جهة إلى أخرى للحفاظ على منصبه، أي إنه يجب دفعه خارح الحكم، وليس إبادته كالحشرات الطفيلية مثل المنظمات التي تستهدف إسرائيل أو القواعد الأميركية في سورية والعراق. وهنا يجب ألّا يضلّل عداء فريدمان نتنياهو أحداً، ففريدمان يؤيد أهداف الحرب، ولكنه لا يؤيد تهوّر نتنياهو الذي يمثل وجه المشروع الصهيوني الحقيقي، وهو يبحثُ عن زعامات إسرائيلية "حضارية" تمارس الاحتلال والاقتلاع فيما ترفع شعارات السلام.

أتقن فريدمان دوره مدافعاً عن هيمنة أميركا الاقتصادية والعسكرية في العالم غالباً ممثلة للعولمة الاقتصادية، تحت ستار ترويج النظام الاقتصادي والثقافي بين الشعوب

المستهجن في موقف النخب العربية، التي تهوى كل مبشّري الصهاينة "الليبراليين" القادمين من واشنطن، أنها نسيت أو تناست دور فريدمان القذر في التحريض وفي التبرير بكل وقاحة للعدوان على العراق وتدميره، فهو من القلائل بين الصحافيين، وهو الأبرز، الذين كتبوا وتحدثوا بلغة تهديد وتحشيد تكاد تكون وحشية ضد جميع المسلمين قبل الحرب وخلالها وبعدها. ولم يكن يتحدّث حينها صحافياً أو كاتباً، ولم يحاول التستر خلف كلمات حضارية منمقة حين كتب في مقال، في 4/6/ 2004، أن السبب الحقيقي للحرب هو لفقء فقاعة الإرهاب ضد أميركا بعد تفجيرات 11 سبتمبر من خلال "دخول الجيش الأميركي قلب العالم الإسلامي والعربي، وولوج الجنود الأميركيين داخل كل بيت، لنريهم أننا على استعدادٍ للقتل وللموت، من أجل حماية مجتمعنا المفتوح من فقاعة الإرهاب".

لم يكتفِ برسالة التحريض على القتل في مقاله، لكنه قال بلهجة تهديد عدوانية في مقابلة تلفزيونية مع المذيع الشهير تشارلي روز، إن على العرب والمسلمين تذكّر كلماته (تهديده)، فلا بديل لهم سوى الإذعان.

لم تؤثر تصريحات فريدمان العنصرية البشعة في موقف نخب عربية كثيرة، فتجد وزراء وصحافيين يقابلون فريدمان وينادونه "توم". وحدث أنني التقيت وزيراً عربياً بعد عامين على الحرب، وأسرّ لي بفخر أنه قبل يوم كان على "غداء مع توم"، ولمّا سألتُه عمن يكون توم، استغرب وأعاد ترديد اسم توم، وكأنه صديق طفولته الأحب.

أن تكون نخب عربية مبهورة بتوماس فريدمان، وبمن مثله، وتحتفي بهم وتنافق لهم على حساب الشعوب، فهذا شأننا، وهو ما لا يطاق

صفاقة فريدمان وغيره من صحافيين وباحثين في مراكز بحث صهيونية - أميركية من أمثال ديفيد شينكر وروبرت ساتلوف، ومن لفّ لفّهم من صهاينة أو عرب متصهينين، ممن شاركوا بالتحريض على غزو العراق، لم تؤثر، إلا في ما ندر، بموقف أغلب النخب العربية. وأجد في موقف هذه النخب تواطؤاً مقصوداً أحياناً، أو نابعاً من انبهار ساذج في أكثر الأحيان، مع مواقف فريدمان الداعمة للحروب الأميركية ولحرب الإبادة الجارية في غزّة، إذ فيها استهانة بحياة العراقيين، والآن الفلسطينيين، واحتفاءً وإعجاباً بمن يناصب شعوبنا العداء، وكأن شيئاً لم يحدُث.

أتقن فريدمان دوره مدافعاً عن هيمنة أميركا الاقتصادية والعسكرية في العالم غالباً ممثلة للعولمة الاقتصادية، تحت ستار ترويج النظام الاقتصادي والثقافي بين الشعوب؛ فالهيمنة الاقتصادية الأميركية، برأيه، تمنع الحروب وتؤسّس للسلام. ومفهومه للسلام العالمي هو "إذعان الدول والشعوب" لسيطرة واشنطن بوصفها القوة العظمى الأوحد، دون أي منافس أو منازع.

لا يختلف فريدمان في جوهر موقفه عن نتنياهو، فكلاهما يروّج أن إسرائيل تمثل نقطة ضوء حضارية للغرب بين العرب والمسلمين "المتخلفين"، وهذا شأنهما. ولكن أن تكون نخب عربية مبهورة به وبمن مثله وتحتفي بهم وتنافق لهم على حساب الشعوب، فهذا شأننا، وهو ما لا يطاق. ولهؤلاء جميعاً، سياسيين وإعلاميين، نقول: كفى زيفاً وتملّقاً على حساب حياة (ودماء) أهل فلسطين والعراق واليمن وكل عربي وإنسان يصبح هدفاً لفرض هيمنة إسرائيل.

كاتبة وصحفية
كاتبة وصحفية
لميس أندوني
كاتبة وصحفية من الأردن
لميس أندوني