دولة فاشلة أم نظام فاشل في مصر؟
يكرّر الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ذكر مصطلح الدولة الفاشلة، وهو يتحدّث عن بعض دول الجوار، ولعلّه يقصد العراق بعد الاحتلال الأميركي، أو ليبيا التي يستبيح حدودها، أو سورية التي أنهكها مستبدّ دموي، أو اليمن الذي بات تعيسا بسبب جيرانه، أو لعله يقصد هذه الدول مجتمعة. ويتحدّث السيسي عن الدولة الفاشلة دوما في معرض تحذيره وتهديده من الحراك الجماهيري ضد سياسته في الحكم. وبحكم معرفتنا بتاريخه وقدراته، يصعب علينا تصوُّر أنه يدرك سياق الكلمة ومعانيها وتاريخها في الاصطلاح السياسي.
يجيء في السياق الأكاديمي مصطلح الدولة الفاشلة بتعريفاتٍ متعدّدة، وكعادة التعريفات في العلوم الاجتماعية، لا يوجد تعريفٌ متفق عليه، ولكن يمكن البناء على معنى ما تهدف إليه التعريفات، وهو يتعلق بنقطتين؛ عدم قدرة الدولة على حماية حدودها، أو عدم قدرتها على الإدارة الداخلية، وللشِّق الداخلي مؤشّراتٌ تتعلق بالكفاءة الإدارية، أو المهام الأمنية، أو الاستقرار السياسي، أو شرعية الحكم، والشرعية تقوم على الرضا الشعبي عن إدارة الدولة، لا على الشرعية المستمدّة من الحلفاء الدوليين التي أدمنها قادة منطقتنا.
الإشكال الذي يطرحه مفهوم "الدولة الفاشلة"، أنه مخادع؛ فالدولة كيانٌ معنويٌّ، لكن الإدارة الحاكمة هي الكيان المادي، وهي التي ينطبق على نهجها أوصاف النجاح والفشل، وقد نَقَلَ المصطلح تبعية الفشل من جماعة الحكم فقط إلى نطاق المجتمع، بكل تفاعلاته الرسمية والأهلية. والمجتمع عندما يتردد على سمعه وصف الفشل العام، تنزوي قطاعات منه على نفسها وتحمِّل نفسها سبب الإخفاق، ويصبح النقد مشتَّتا بين عدة أطراف، وكان ينبغي أن تكون وِجْهته إلى مقر الحكم لا غير.
الراصد معدلات تدهور قيمة الجنيه المصري، وغلاء الأسعار بصورة متسارعة في زمن غير مسبوق، يقدرُ على إدراك حقيقة فشل نظام الحكم وحده
هذا ما يفعله السيسي ويتغيَّاه، وهو لا يدع مناسبة إلا ويحمِّل المجتمع أوزار فشل نظامه، وضَعفَ قدراته الإدارية، وسوءَ رؤيته. وفوق هذا، يشعر بأن الأرض لم تنجِب مثله في شرقها وغربها. والأرقام التي لا يمكن العبث بها لا تكذب، فهُمْ إذا كان يمكنهم تزييف معدلات البطالة والنمو وما إلى ذلك، فإن الراصدَ معدلات تدهور قيمة الجنيه المصري، وغلاء الأسعار بصورة متسارعة في زمن غير مسبوق، يقدرُ على إدراك حقيقة فشل نظام الحكم وحده، من دون وجود اشتراك لغيره في تَبِعَات ممارساته.
كان سعر الدولار أمام الجنيه، وفقا لبيانات وزارة المالية المصرية، في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2013 يساوي 6.899، وبلغ وقت كتابة المقال 27.07، وكان سعر الذهب عيار 24 غراما في 22 يناير/ كانون الثاني 2014، وفقا لتصريحات عضو في شعبة الذهب لموقع اليوم السابع المصري، قد بلغ 294 جنيها، بينما بلغ اليوم ألفي جنيه، وكان سعر لتر البنزين 92 1.85 جنيه في يوليو/ تموز 2014، بعد تولي السيسي الحكم بأقل من شهرين، ويبلغ اليوم 9.25 جنيهات، وكان سعر أسطوانة الغاز الطبيعي للمنازل قد بلغ 15 جنيها في يوليو 2014، ووصل اليوم إلى 150 جنيها.
أما السِّلع الغذائية فقد قفزت قفزات غير اعتيادية خلال سنوات حكمه البائسة؛ فقد نقلت صحيفة الأهرام الحكومية يوم 29 يونيو/ حزيران 2014، عن الغرفة التجارية بالشرقية أسعار بعض المنتجات الأساسية، حينها، وكانت: الفول المستورد بـستة جنيهات، والأرز بخمسة جنيهات، وزيت القلي 10 جنيهات، والسمن الصناعي 22 جنيها (عبوة 2 كغم)، وكيلو غرام الدجاج البلدي 22 جنيها، و18 جنيها للدجاج الأبيض، وسعر كرتونة البيض 22 جنيها، واللحوم البقرية 73 جنيها (تراوح السعر وقتها بين 35 و45 جنيها في منافذ وزارة الزراعة المصرية)، وأصبحت هذه الأسعار وقت كتابة المقال: 34 جنيها للفول، 15-18 جنيها للأرز، 45 جنيها للزيت، 30 جنيها للسمن الصناعي (عبوة 800 غرام فقط)، 80 جنيها للدجاج البلدي، 55 جنيها للدجاج الأبيض، 90 جنيها لكرتونة البيض، 170 جنيها إلى 200 جنيه للحوم البقرية. وهذه الأسعار من المواقع المحلية، وقد أصبحت مملوكة للدولة في عهد السيسي، وليست من مصادر معارضة.
لم تشهد مصر تدهورا في أوضاعها السياسية والاجتماعية مثلما شهدته على يد مرشّح الضرورة وطبيب الفلاسفة
تُوضَع هذه الأرقام أمام النفقات التي يُنفقها السيسي، بعدما رفع الدعم عن ملايين الأسر، وسلع واحتياجات أساسية عديدة، وحوّل نفقات الدولة من المواطن إلى المنشآت، وارتكزت ميزانيته على الضرائب لا الإنتاج، وعلى ذِكْر النفقات فقد أعلن يوم 5 يناير/ كانون الثاني الجاري في محافظة سوهاج عن إنفاق نظامه سبعة تريليونات جنيه مصري على مشروعات التنمية، معتبرا أنه رقم ضئيل، وأن مصر تحتاج إلى 70 تريليون جنيه للتنمية، والمفاجئ أن صاحب هذه الأرقام غير المدروسة سبق له أن قال "إن مصر تحتاج إلى مائة مليار دولار" وهو الرقم الذي لو قدَّرْناه بسعر اليوم لا سعر يوم التصريح، فإنه يعني قرابة تريليونين و700 مليار جنيه فقط، فأي الرقمين نصدّق؟ والأهم هل يدرك هو ما يقوله؟
وتابع طبيب الفلاسفة ببيان أن إنشاء مؤسسة واحدة مثل مستشفى أو مدرسة أو مكتب بريد أو غيرها، يحتاج نفقات للأجور، وأخرى للتشغيل، وأخرى للصيانة، وما إلى ذلك، وهذا صحيح، لكن من حقنا أيضا أن نسأل عن تكاليف تشغيل المدن الصحراوية وإضاءتها وصيانتها وإدارتها، وجدوى إنشاء مسارات نيلية جديدة لتغذية تلك المدن، وأثَر ذلك على الحصة المائية مع زيادة مساحة التسرّب الجوفيِّ والبَخْر، وآلاف الأسئلة بشأن جدوى إنفاق هذه المبالغ على الطرق والكباري (الجسور) والمدن الصحراوية، مقابل التقتير في الإنشاءات الطبية والتعليمية، وتوفير المرتّبات التي تمنع هجرة العقول الطبية والتعليمية.
ما تمرّ به مصر، عقب محاولتها التحرّر من الاستبداد عام 2011، يضع صورة شديدة الوضوح نتيجة احتكار غير الأكْفاء حكم مصر، ولم تشهد مصر تدهورا في أوضاعها السياسية والاجتماعية مثلما شهدته على يد مرشّح الضرورة وطبيب الفلاسفة، ولن تفلح أي أرقام زائفة عن معدّلات النمو في إخفاء حقيقةٍ يشعر بها المواطن المصري في حياته كل يوم، فالأرقام الكاذبة لن تُطعم أحدا وتكسوه، والأرقام الكاذبة لن تملأ الجيوب، والطرق والبنايات الفارهة لن يقتطع المصريون حجارتها ليُشبِعوا بطونهم بها، فالحقيقة واضحة لكل متضرّر، مهما أغرق النظام حياة المصريين في التزييف والكذب. ولن يقبلوا بأن نكون شركاء في الفشل، فالفاشل معروف، لكنه يغفل أن الإعلام في أربعينيات القرن الماضي، ليس كالإعلام اليوم.