دوستويفسكي "معادٍ للسامية" يحبّه بوتين
أما وأنه موسمٌ للكلام عن دوستويفسكي (1821 – 1881)، استجدّ بعد وقف جامعةٍ في ميلانو تدريس أدبه، تعبيرا عن رفض الغزو الروسي أوكرانيا، وإنْ لا ينفي العدولُ عن هذه الحماقة رثاثَتها، فإن ثمّة سؤال من سأل ما إذا كانت إدارة الجامعة، لمّا أبلغت البروفيسور باولو نوري بقرارها هذا، تُضمر موقفا من الكاتب الروسي، بزعم إن أفكارا له "معادية للسامية"، على ما تراه أوساط في الغرب، بعضها أكاديمية على إعجابٍ بصنيعه الإبداعي. وعلى ما هو "شبه الإجماع" في دولة الاحتلال، دلّ عليه غضبٌ عريضٌ، أعلنته فاعلياتٌ يمينيةٌ ومتديّنة، على وزير الخارجية، لبيد، لمّا شمل، في قولٍ له في زيارته روسيا خريف العام الماضي، دوستويفسكي (وغوغول)، بين أدباء وفنانين روس، "لهم دورٌ في الحضارة البشرية"، بدعوى "معاداتهما السامية"، وإنْ يجري تدريس روايات صاحب "الجريمة والعقاب" في جامعاتٍ إسرائيلية، وإنْ رواياتُه مترجمةٌ إلى العبرية. ومبعث "الاشتباه" في الكاتب الشهير، في هذا الأمر، ما جاء في بعض ما كتب، سيما "يوميات كاتب"، عن حبّ اليهود المال، وأنهم في أوروبا "سادة الإقراض"، يتحكّمون بالبورصات، ويسيطرون على رأس المال. ولئن يجوز أن يُحسبَ كلامٌ كهذا (لم يكن دوستويفسكي وحدَه من يقوله ويكتبه)، غير ودودٍ ربما، إلا أن من الاستحالة، وقلّة العقل أيضا، أن يعدّ شاهدا على عداءٍ للسامية. ولمّا كانت معظم الشخصيات اليهودية في روايات كاتب "الأبله" سلبيةً، متعجرفةً وشرهة (إيزاي في "مذكّرات من البيت الميت"، مثلا)، فإنه حرص بشدّة على نفي كراهيته اليهود، فقد سأل في مقالته الطويلة "المسألة اليهودية" (نشرها في 1877): متى وكيف وفي أي موقعٍ عبّرت عن كراهيتي اليهود بصفتهم يهودا؟ ويضيف: قلبي لم يعرف ألبتّة تلك البغضاء، ويعلم ذلك حقّ العلم اليهود الذين أعرفهم ويعرفونني، وبيني وبينهم اتصالاتٌ مستمرّة. .. ولكنّ موسوعاتٍ ومصادر يهودية تتمسّك بأن "معاداة السامية جزءٌ لا يتجزّأ من رؤية دوستويفسكي للعالم". والأرجح أنها الذهنية المتوجسّة، الميّالة إلى تصنيف الآخرين بحسب فرضياتٍ مرتابة، وراء الاستسهال في رمي السارد الروسي المُبهر بالعداء إياه. ومُفزعٌ جدّا لو صحّ الظن السيئ أن صاحب السلطة في جامعة ميلانو من هؤلاء، فأخذ ذلك القرار قبل أن يرعوي.
سؤالٌ ثانٍ، ثمّة من أفضى به في موسم الكلام نفسه: لو أن دوستويفسكي مقيمٌ في هذا الزمان، هل كان سيؤيّد حرب بوتين في أوكرانيا؟ افتراضٌ متخيّل ربما يجيزُه أن الخيال كان من عدّة قريحة صاحب "الشياطين" في إنتاج رواياته الأربع عشرة (عدا عن قصصه). وعلى غير ما كان الجواب على السؤال بشأن فعلة الجامعة الإيطالية عائما، فإن الجواب على هذا السؤال: نعم، بالتأكيد، سيؤيّد الحرب. وليس من تعسّفٍ في القول إن أنفاسا من دوستويفسكي، الشديد التعلق بـ"الروح الروسية"، حاضرةٌ في بعض خطب بوتين، وأظنّه صحيحا قول من قال إن قراءتك نصوصا محدّدة من هذا الكاتب الكبير تُسعفك في فهم الرئيس الروسي الذي كان كيسنجر حاذقا لمّا قال عنه إنه "شخصٌ خرج من روايات دوستويفسكي". تلك الروح القومية المسكونة بروسيا عُظمى، إمبراطورية، صاحبة دور، سيما في مقابل الغرب الذي "يجب مقاومة نموذجه بأي ثمن" (كلام دوستويفسكي)، حاضرةٌ بقوة في حلم "الأمة الروسية" بقيادة إمبراطوريةٍ تضم جوار روسيا (أوكرانيا منها بداهة)، على ما كتب وردّد، مدفوعا بإيمانٍ مسيحيٍّ أرثوذكسي محافظ (كان يرمي الغرب بالإلحاد!). وقد كان كلام بوتين ناقصا لمّا قال عن إعجابه بروايات دوستويفسكي ("الإخوة كارامازوف" خصوصا)، فخياراتٌ كثيرةٌ له، منها ضم القرم ثم غزو أوكرانيا، تُجسّد ما كان يتوطّن في كاتبه الأحب الذي ناصر حرب روسيا على الدولة العثمانية والأتراك في البلقان (في 1877)، وتحمّس لها، على غير ما فعل تولستوي الذي لا يمحضُه بوتين إعجابا ظاهرا.
قال فرويد إن دوستويفسكي أول من أعطانا فكرةً عن الناس الذين هم نحن. وقال محمد البساطي، عن جريمة قتل المغنية اللبنانية سوزان تميم في دبي، بتدبير في القاهرة من عشيقها السابق هشام طلعت مصطفى، وكان من كثير هداياه لها حزامٌ من الذهب والماس، إنها حكايةٌ تحتاج دوستويفسكي ليكتبها. وكاتب السطور أعلاه يقول إن ظلالا من دوستويفسكي حاضرةٌ في حربٍ نتابعها على أوكرانيا.