دليلك إلى الأيّام الأخيرة على الأرض
هناك نوعان من الأطفال: الذين يستغلّون وجودهم في حديقة في اللّعب والمرح، وحين تأتي أُمّهاتهم لإعادتهم إلى البيت يمتعضون من ذلك. وطفلٌ يجلس وحده في الزّاوية، ينتظر نداء أمه، غير فرِحٍ بما هو قائم، ولا حزين لما هو آت. "لا أريد أبداً أن أكون ذلك الطفل، حين يناديني خالقي". بدلا من ذلك، أراد "وليامز" أن يكونَ الطّفلَ الذي قضى ساعةً مبهجةً في الحديقة، وحين يأتي الوقت، سيودّ لو امتلك منه نصيباً أوفى، لأنّ لديه الكثير مما يفعله، ولأنّه مستمتعٌ بما يعيشه. يلخّص هذا المشهد من الفيلم البريطاني "العيش" (Living) الحكمة التي حملتها الأيام الأخيرة لموّظف كبير في البلدية، حازم كالمِسطرة، بمواعيد محدّدة، وصارم كالسّاعة في إدارة مرؤوسيه. لكن حين أخبره الطبيب أنّه لم يعد لديه سوى بضعة أشهر في الحياة، انتبه أن عمره ضاع من دون أن "يعيش".
اعترف وليامز: "لا أعرف كيف أعيش" لغريبٍ تعرّف عليه في مقهى بلدةٍ توجّه إليها ليُنهي حياته فيها بأقراصٍ منوّمة، قبل أن يقضي عليه المرض. أراد أن يُسرّع الموت، لكنّه لم يستطع. فقد استوعب أنه لم يعش كما تمنّى في طفولته، ولم يُدرك أنّ الوقت كله قد مضى، إلّا الآن. وماذا يفعل بإدراكه المتأخّر هذا؟ تولّى الغريب تعليمه الحياة كما يفهمها هو، في أماكن اللّهو الليلي. ثم قضى أسابيعه التالية بالتّجوال في لندن. وعلى الرغم من أن ذلك أراحه، حتّى إن ملامحه استرخت، بعدما كانت أشبه بملامح زومبي، كما لقّبته موظفته الشابة. لكنه لم يعش حقاً، إلى أن بدأ العمل على مشروع ملعبٍ كان يتهرّب منه وقتا طويلا، كأيّ موظف بيروقراطي عتيد. وكان الملعب استعارةً جميلةً للحياة، فقد قضى آخر لحظاته فيه، سعيداً كما لم يكن من قبل، كأنه استكمل طفولته، ولم يعش ما بينها وبين بقية أيامه. لكن هل رحل حقّاً بلا ندم؟ نشعر بالسّلام من أجل الشيخ "بيل ناي"، لكنّنا لا ننسى أن ذلك لن يُعوّض حياته المهدورة ووظيفته المملّة وترمّله المبكر.
فيلم آخر احتفى بالأيام الأخيرة في الحياة، حيثُ لا يفوت الوقت أبداً على "العيش" حقّاً. هو فيلم "رجل يُدعى أوتو " (A Man Called Otto). حيث يقرّر رجل ستيني (توم هانكس)، بعد وفاة زوجته، أن يُسرّع، بدوره، لحظة الوفاة، مع العلم أنه يعاني من علّةٍ مزمنةٍ في قلبه. فشلت محاولات "أوتو" للانتحار في بيته، بالتتابع. إمّا لأنّها لم تكُن مُحكمة التنفيذ، أو لمقاطعته من جارته اللّاتينية الثرثارة وزوجها الأحمق. بالتّدريج، بدأ يتقبّل وضعَه الجديد كجار مضطرّ للأسرة الصّاخبة. ثم انتهى به الأمر أن أصبح جزءاً منها، أبا للجارة الشابّة، التي لم تصبح فقط بمنزلة الابنة التي لم يُرزق بها، وصار جدّاً لأطفالها، بل ترك ميراثه لها.
وجد كل من العجوزين نفسه وقد سمح لإحدى الشّابتين (الموظفة والجارة) بالاقتراب من حقيقته، على عكس ما فعله مع الآخرين. فتحوّل الرجلان من عجوزين نَكِدين بخيلين إلى شخصين آخرين يتّصفان بالدّفء والكرم. لكن هل يمكن حقاً تعويض الوقت الضّائع من حيواتنا؟
من الجميل أن يعود مُخرجا الفيلمين إلى فترةٍ مهمةٍ من حياة كل إنسان، لكنها قليلاً ما جرى تناولها بشكل عميق في السّينما. وقد رأينا، أخيراً، نموذجاً آخر منها مع ميريل ستريب في فيلمها "Let Them All Talk" عن كاتبة تقوم برحلة مع صديقتين. تعرف من طبيبها أنها تعيش آخر أيّامها، فتختار بهدوء مكان رحيلها المنتظر ورفقتها، حتى لو لم يكن لها خيار في وقته. لكن ميريل في الفيلم عاشت حياتها بالطول والعرض، فهل الرّجال أكثر ندماً في النهايات؟ ولم هم أقلّ قدرةً على تقبل معرفة زمن الرحيل؟
ينتهي فيلما "العيش" (إنتاج 2022) و"رجل يُدعى أوتو" (إنتاج 2023) بأن تقدّم الشّخصيات الشابّة التي صادقها الرّاحل نموذجاً لـلحياة. لكنّها حكمةٌ لا معنى لها بعد رحيلهم هم. مثل حكمة المحكوم بالإعدام، الذي سُئل عن آخر كلماته، فقال "عسى أن يكون هذا درساً لي"! بماذا يُفيد الراحلينِ أن يعيش الآخرون حياتهما، التي ضاعت في الحرص الشّديد على العمل، والمال والروتين؟