دعوة إلى التشاؤم الثوري العالمي
نشر عالم النفس الاجتماعي، ليون فستنغر، في عام 1956، دراسة عن "الطوائف الأبوكاليبتية"، أي التي تشمل معتقداتها نبوءة بنهاية العالم، وجد فيها أن من صفاتهم المحورية ثبات إيمانهم حتى بعد مواجهتهم بأدلة عكسية. اعتمدت الدراسة على نموذج جماعةٍ تقودها دوروثي مارتن، وهي ربّة منزل من ضواحي شيكاغو، أقنعت أتباعها بأنها تلقت تواصلا من كائنات فضائية تحمل لقب "الحرّاس"، وقد أخبروها أن العالم سينتهي في 21 ديسمبر/ كانون الأول عام 1954.
مع اقتراب التاريخ المحدّد، استقال بعض أعضاء الطائفة من وظائفهم، منهم من هجروا أسرهم ومنازلهم، لكن حين مضى ذلك التاريخ ولم تُدمّر الأرض، لم تهتز عقيدة المؤمنين مطلقا. ما حدث أن الدليل المعاكس جرى إدماجه في سرديتهم: لقد نجا العالم بسبب نيات أبناء الطائفة الطيبة!
في كتابه "الأسوأ لم يأتِ بعد، دليل ما بعد رأسمالي للنجاة"، يسرد بيتر فليمنغ، أستاذ الإدارة في جامعة سيدني للتكنولوجيا، تلك القصة في فصل بعنوان "هل الرأسمالية طائفة دينية؟"، مقارناً إياها باستمرار معتنقي "النيوليبرالية" بالإيمان بها، رغم ثبوت أدلة خطأ نبوءتهم، حيث شهدنا بعد عقود من تلك السياسات، التي دشنها ريغان في الولايات المتحدة وتاتشر في بريطانيا، أن مجتمع روّاد الأعمال المزدهرين لم يتحقق، بل حدث استقطاب هائل للثروة بين الأثرياء وعامة البشر، بل إننا شهدنا الانهيار الكبير إبّان الأزمة المالية العالمية.
يُعدد الكتاب ذو الأسلوب الطريف، والذي ترجمه بكفاءة للعربية الصديق محمد أ. جمال، أسباباً للتنبؤ بأن القادم أسوأ. سيزداد عامة البشر فقرا وتعاسة، بل إن خطر نهاية العالم بالغ الجدّية. يسرد الكاتب مشاهداته الشخصية، حيث كانت "جحيمه" في ستوك نوينغتون، وهو حي فقير شمال شرق لندن، تنتشر به الجرائم. وعلى الرغم من ذلك، تنافس مع آخرين للحصول على شقة متهالكة كأنها بالوعة، لكنها "بالوعة ستلتهم نصف راتبي"، ومن المهم هنا الإشارة إلى التردّي البالغ في رواتب الأكاديميين المختصّين بالعلوم الاجتماعية.
كشفت إحصاءات عام 2016 عن وجود 7،1 ملايين شخص يعملون في وظائف غير مستقرّة في بريطانيا. وحتى في الوظائف المستقرّة يمكن للشركات استخدام آليات قانونية لإحالة حياة الموظف جحيما، كما حدث في فرانس تيليكوم، حين شهدت سلسلة من حوادث الانتحار بسبب خطة "إعادة هيكلة".
في فصلٍ تالٍ، ناقش الأوضاع الكارثية للبيئة. يعرض نتائج دراسةٍ أجراها الصندوق العالمي للطبيعة WWF تقول إننا لو أسقطنا معدّل الاستهلاك العالمي الحالي على المستقبل، فسنجد أننا في حاجة لما يعادل كوكب الأرض مرّة ونصف المرّة. اما في حال تعميم مستوى الاستهلاك الأميركي فالرقم يصير أربعة كواكب أرض! ويحذّر الكاتب من أن النظام البيئي يستعد للانتقام، ربما على هيئة فيروساتٍ غير قابلة للعلاج أو تغيرات مناخية حادّة كالعواصف. نُشر الكتاب عام 2019، أي قبل وباء كوفيد، والذي حقّق جزءا من تلك النبوءة. وينتقل إلى نقاش مخاطر انتشار الذكاء الاصطناعي والروبوتات، حيث يرى أن الخطر الحقيقي ليس في أن تحكمنا الروبوتات، بل في النزعات الشرّيرة لمبرمجيها البشر، كما بتطوير "الدرونز" المتسارع.
خطر آخر تشكيل البشر على صورة الروبوتات، كما ببراءة اختراع حصلت عليها أمازون لأسورة الكترونية لمراقبة العامل وحساب الاهتزازات وكل ثانية عمل، وحتى حساب استراحات الحمام. وتهدّد تلك التقنيات الأمان الوظيفي، سواء باحتمال استبدال العمالة البشرية بآلات، أو بابتزاز العاملين للقبول بأدنى الرواتب. لن ينظّف روبوت منزلك لأن ما تدفعه للبشري سيظل أقل كلفة.
في مواجهة كل هذه التحدّيات، يدعو فليمنغ إلى ما يسميه "التشاؤم الثوري"، أي العمل على أساس توقع الأسوأ. يطرح في "دليله للنجاة" نصائح يدور عديد منها حول أولوية العمل الجماعي، والتنظيم الذاتي عبر النقابات وغيرها، ومقاومة النزعات القومية. يعتبر أن الحل هو "التجاوز المتطرّف للرأسمالية"، لكن البداية ستكون خطواتٍ جزئيةً، مثل الدخل الأساسي الموحد.
في المجمل، يطرح الكتاب أفكارا ومعلومات جديرة بالنقاش رغم سوداويتها، كما أن من المهم للمناضلين من أجل الديمقراطية في العالم العربي توسيع رؤيتهم، وتبيّن موضع نضالهم من أزمات العالم المعاصر وتعقيداته.