دروس عربية وأفريقية في واقعة طرد دبلوماسية إسرائيلية
طُردت في افتتاح القمة الأفريقية في أديس أبابا أخيراً الدبلوماسية الإسرائيلية شارون بارا، من القاعة. ولم تكن الواقعة تعني وحسب منع تسلل الوفد الإسرائيلي، وإنما حملت أيضاً رسالة عن إغلاق باب الاتحاد الأفريقي أمام عودة إسرائيل إليه عضواً مراقباً، فهمت الخارجية الإسرائيلية الموقف، واعتبرته دليلاً على الكراهية، ومن تدبير الجزائر وجنوب أفريقيا، فضلاً عن اتهامهما باحتجاز الاتحاد رهينة!
وكان قرار منح إسرائيل صفة مراقب، في يوليو/ تموز 2021، قد أثار خلافاً أفريقياً، استدعى تشكيل لجنة سباعية تضم دولاً ذات مواقف متباينة، وهو ما حكم الخلافات الأفريقية طوال عامين من مسألة عضوية إسرائيل في المنظمة القارّية، كما انعكس على تفاصيل، منها السماح بمشاركة بارا وحصولها على دعوة وبطاقة دخول، بينما نفى المفوّض العام للاتحاد، موسى فكي، توجيه الدعوة، وهو الذي منحها صفة مراقب مستثمراً منصبه، ودافع عن قراره، في خطابٍ مطوّلٍ أمام أعضاء الاتحاد في فبراير/ شباط 2022، وقال إن القرار مرّره المجلس التنفيذي لمفوضية الاتحاد، في رد على اتهامه باتخاذ قراراتٍ فردية.
كما حمل خطابه مسوّغات دفاع عن إسرائيل بشكل مبطّن، وتماسّ مع مسوغات التطبيع عربياً، زاعماً تلقي طلبات ومذكّرات دبلوماسية وأخرى شفوية تدعم عضوية إسرائيل، ومستنداً إلى سردية أن أغلب الدول الأفريقية طبّعت علاقتها مع إسرائيل، مشيراً إلى إقامة 44 دولة علاقات دبلوماسية معها. وفي تقاربٍ مع خطاب التطبيع العربي، أشار ضمناً إلى أن عضوية إسرائيل لا تتناقض مع دعم القضية الفلسطينية موقفاً ثابتاً للاتحاد، ودعم حلّ الدولتين، وفي مكايدة وإحراج للكتلة العربية، حيّا جهود الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس في التنسيق الأمني مع إسرائيل، والوساطة الإيجابية للقاهرة.
تبقى واقعة الطرد موجعةً لإسرائيل التي اعتبرت، سابقاً، حصولها على صفة عضو مراقب في الاتحاد اختراقاً جديداً لأفريقيا
وبعيداً عن هذا الخطاب، من الواضح توظيف فكي منصبه لصالح بلاده تشاد، والتي افتتحت سفارة لها في إسرائيل أول فبراير/ شباط الجاري، خلال زيارة أجراها ديبي الابن، الذي يحكم البلاد خلفاً لوالده، عبر مجلس عسكري مدّد فترة الحكم الانتقالي. ويبدو أن التطبيع أفريقياً مدعوم بحكم الجنرالات، يتحصّنون بإسرائيل، كأداة وساطة تُثبت حكمهم، وتساهم في تفاهمات مع واشنطن. وإذا أضفنا إلى ديبي رئيس مجلس السيادة في السودان، الجنرال عبد الفتاح البرهان، والذي يسعى إلى توقيع اتفاق مع إسرائيل برعاية واشنطن واستضافتها، حسب ما أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، سنرى حالتين متقاربتين، تطبيعاً يعوّم الجنرال، وإن اتخذ الأمر مستقبلاً صورة انتقال للسلطة عبر انتخاباتٍ شكلية، وليست تحقيقات تجرى عن مساهمات إسرائيلية في برامج تجسّس، وفرق سياسية تتدخل في انتخابات في 30 دولة شملت قارّة أفريقيا، نسجاً من الخيال أو ولعاً بالمؤامرة، خاصة ونحن نرى دون مواربة جنرالات وقادة جيوش يستولون على السلطة ويرحّبون بتعاون أمني وعسكري مع تل أبيب، ومنهم من يُشيد صراحةً بدور الموساد في التطبيع، كما تصريحات ديبي في زيارته إسرائيل أول فبراير/ شباط الجاري.
وعموماً، تبقى واقعة الطرد موجعةً لإسرائيل التي اعتبرت، سابقاً، حصولها على صفة عضو مراقب في الاتحاد اختراقاً جديداً لأفريقيا، وعودة بعد غياب عقدين، حين فقدت عضويتها مراقباً مع حل المنظمة، وتحويلها إلى الاتحاد الأفريقي، بينما اعتبرت دول أفريقية منح إسرائيل العضوية تجاوزاً تنظيمياً وتناقضاً مع ميراث المنظمة التي تأسّست على مناهضة الاستعمار، وتعارضاً مع وثائق الاتحاد ومبادئه الأساسية، وهو ما أنتج واقعة الطرد، وقوّى الجبهةَ المعارضة لإسرائيل داخل الاتحاد، وإن كانت تبدو أقلّ عدداً. والتحية هنا واجبة لجهودٍ قادتها الجزائر وجنوب أفريقيا مع خمس دول عربية، بينها جزر القمر (استلمت رئاسة الاتحاد من السنغال)، وهو ما أوجد موقفاً صلباً، ووسّع دائرة الرفض الأفريقي لوجود إسرائيل، والذي سيساهم في مواقف مشابهة، في منظماتٍ وفاعلياتٍ دولية. وليست وقائع متعدّدة لأبطال رياضيين يظهرون انحيازاً عادلاً إلى القضية الفلسطينية ومواجهة ورفضاً لإسرائيل شيئاً بسيطاً أو موقفاً استعراضياً، مصريين وكويتيين وغيرهم في بطولاتٍ دولية، وكذا التلويح بأعلام فلسطين في كأس العالم، ومشاعر عروبية لم تنل منها كل محاولات التطبيع والتغريب وتفكيك علاقات وقضايا تجمع سكان المنطقة الذين يناهضون التطبيع ويعتبرون إسرائيل مهدّداً وخطراً، حتى وإن اختلفت الدرجات، حسب ما تشير استطلاعات المؤشر العربي على مدار سنوات، والذي ينجزه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أو حتى ما تظهره استطلاعات معهد واشنطن .
إعادة طرح القضية الفلسطينية أفريقياً تحمل فرصاً رغم تغيراتٍ ضخمة، بما فيها خريطة علاقات أغلب دول القارّة مع إسرائيل
وحملت واقعة الطرد رمزيةً دالّة، بتزامنها مع وجود رئيس الحكومة الفلسطينية محمد اشتية بين قائمة المتحدّثين على منصة الحفل الافتتاحي إلى جانب رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي والذي بدا عاجزاً عن التصرّف. وفي الموقف كله ما يمكن استنتاجه بشأن تأثيراتٍ ممكنةٍ لمناصري القضية الفلسطينية داخل الساحة الأفريقية، في مواجهة إسرائيل التي عملت خلال عقدين على توسيع نفوذها وتمتين علاقاتها أفريقياً، وطمس قضية الشعب الفلسطيني وتزييف الحقائق، ونفّذت استراتيجيتها، عودة إسرائيل إلى أفريقيا، ونجحت خلال عقد مضى في إحراز نجاحات. وسبق أن أعلنت مستهدفات توسيع نفوذها (خصوصاً مع دول ذات أغلبية مسلمة) من أجل إعادة تدويره، وتحسين سجل تصويت دول القارّة في منظمات دولية، كما مجلس الأمن واليونسكو وغيرها من المنظمات، إلى جانب تعاون متعدّد الأوجه. كما أن إعادة طرح القضية الفلسطينية أفريقياً تحمل فرصاً رغم تغيراتٍ ضخمة، بما فيها خريطة علاقات أغلب دول القارّة مع إسرائيل، والتي كانت في محلّ قطيعة، وأغلبيتها تناصر الحق العربي، لا سيما في فترة عدوان 1967 ومروراً بحرب أكتوبر 1973.
واليوم، ومع حقيقة أن الاحتلال الإسرائيلي وحده الباقي في العالم، كما جاء في كلمة رئيس وزراء فلسطين، محمد اشتية، في افتتاح القمة، لا مساحات كبيرة للخداع وتمرير سردياتٍ تجمع بين خطابات تحرير الأفارقة وتحرير اليهود، أو نغمة الصهيونية السوداء، غير تشابه بين عنصريةٍ كانت قائمة في جنوب أفريقيا دعمتها إسرائيل، وتمارسها اليوم في فلسطين، بما فيها مشاهد توحّش تتناقلها وسائل الإعلام؛ انتهاكات وجرائم خلال اقتحام نابلس وقبلها جنين.
تبقى الفرص قائمة للمواجهة وتصليب المواقف دولياً، ودفع الدور النشط الذي ظهر أفريقياً، ولعبت الجزائر فيه دوراً ملحوظاً
كانت مسألة طرح مشروع لإدانة المستوطنات في مجلس الأمن قائمة، لكن وعوداً أميركية مدعومة بضغوط قوى إقليمية، وتراجع إماراتي وظف موقعه في مجلس الأمن، وحملت وعوداً بتأجيل مشروعات استيطان جديدة، أدّت إلى سحب مشروع القرار، فصدر بيان رئاسي. ورغم ذلك، تبقى الفرص قائمة للمواجهة وتصليب المواقف دولياً، ودفع الدور النشط الذي ظهر أفريقياً، ولعبت الجزائر فيه دوراً ملحوظاً، ضمن استعادة نفوذها. وتضمّن أيضاً تخصيص مليار دولار في مبادرة للتنمية والتضامن الأفريقي، تأتي ضمن مشاغل القمّة. وضمن جهود دبلوماسية ليست منفصلة الصلة عن القضية الفلسطينية، عقد اجتماع بين وزيري الخارجية المصري والجزائري لتنسيق المواقف.
لم تظهر القاهرة في مشهد المواجهة، واختارت التنحّي والاكتفاء بإشاراتٍ ضمنية، ضمن معوقات تحرير إرادتها وحسابات وتوازنات، غير أنها مشدودة بفعل وضعها الاقتصادي، وأحياناً رهانات ضيقة، تجعلها تتأرجح بين مقتضيات أمنها القومي واستعادة دورٍ يتناسب مع مكانتها، وبين مكاسب اقتصادية تخفّف أزمتها أو استجابة لتحالفات دولية وإقليمية. وفي الوقت الذي تعلن القاهرة موقفاً ضد التصعيد الإسرائيلي وتستضيف مؤتمر القدس، ضمن مخرجات قمّة الجزائر، وتطرح خطاباً مغايراً نسبياً، فإنها، في الوقت نفسه، تنسّق المواقف مع إسرائيل فيما يتعلق باستثمارات الغاز، وتواصل اتصالاتها وتضغط على السلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة، من أجل تقليل احتمالات المواجهة مع الاحتلال. وتشير مع الأردن إلى تسهيلات في العبور، غير إعادة إحياء مشروع الإعمار في غزة، وتجتمع وفود مصرية وأردنية في العقبة مع وفد إسرائيلي وفلسطيني بمشاركة أميركية، الأحد 26 فبراير/ شباط، ضمن أدوار الوساطة. واقتحام نابلس الأربعاء الماضي "بروفة" لما قد تشهده الأيام المقبلة من تصعيد إسرائيلي. وليست احتمالات اندلاع انتفاضة شعبية رغم إنهاك داخلي ببعيدة، ذلك لأن تعقّد أزمة كل الفلسطينيين في الضفة والقطاع اقتصادياً واجتماعياً إلى جانب إفلاس السلطة يشير إلى احتمالات التفجر، كذلك يواجه أهالي القدس ممارسات التمييز والتضيق والتهجير والتميز وبعضهم يواجه خطر الإبعاد.
إذ تركّزت موضوعاتٌ تضمنتها أجندة القمة الأساسية على التجارة والتنمية والأمن وإسكات البنادق، فإن ذلك محدود الأثر في ظل نظم استبدادية الطابع
وإجمالاً، واقعة استبعاد إسرائيل من المشاركة في القمّة الأفريقية نجاح يمكن البناء عليه أفريقياً، ودرس للدول العربية بشأن إمكانات الفعل والتعاون لا الصراع، كما بدا بشكل مبطن في القمة الأخيرة. والموقف ضد إسرائيل مؤثّر على مستوى دولي، وفي المستويين من نشاط ومواجهة لدولة الاحتلال حائط صدٍّ يخصم من نفوذ إسرائيلي في منظمّات دولية، ويقلّص حيازة إسرائيل أدواراً قيادية فيها عبر ترشّح ممثليها، كما يضغط على الحكومة الإسرائيلية ويقوّض خطواتها.
وفي القمّة الأفريقية أيضاً حقائق، ضمنها أن التطبيع والاصطفاف إلى جانب إسرائيل يرتبط، في جانب منه، بسياقات سياسية، منها الانقلابات العسكرية، الآخذة في التوسّع، والتي زادت عن 40 محاولة انقلاب خلال العقد الأخير. وترتبط أيضاً أوضاع الدول الأفريقية من نقص التنمية وهشاشة ظاهرة، وما ينتجه ذلك من عنفٍ وعدم الاستقرار، وانتشار بؤر الجوع والمرض والكوارث، في جانبٍ كبير، بطبيعة النظم السياسية القائمة اليوم.
وإذ تركّزت موضوعاتٌ تضمنتها أجندة القمة الأساسية على التجارة والتنمية والأمن وإسكات البنادق، فإن ذلك محدود الأثر في ظل نظم استبدادية الطابع، تتحصّن وترتهن أحياناً بقوى دولية، كما واشنطن، وحليفتها إقليمياً إسرائيل، وليس حلّاً اختيار الجبهة المقابلة من قوىً دولية كما روسيا والصين، فالجبهتان في حالة تنازع من أجل الهيمنة والنفوذ والنهب وبناء نُظم موالية وقواعد عسكرية وإشعال الصراعات أحياناً. لذا ليست مقرّرات وتوصيات وبرامج عشرية وأخرى ممتدّة قابلة لتحقيق نتائج ملموسة، من دون تحرّر الشعوب الأفريقية بشكل حقيقي لتختار أنظمة عادلة تحكمها وتدير ثرواتها من دون هدر أو ارتهان للقوى الخارجية مقابل مساعدات تافهة أو إشارة إلى تحالف استراتيجي أو دعم محدود بالسلاح، ليس من أهدافه تأمين الدول بقدر إدامة التنافس والعسكرة والمواجهات بين دول القارّة والتي تحدّ من فرص تعاون قارّي.