دروس سريعة من استقالة ليز تراس
باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.
لا يستطيع أي محلّل سياسي أن يدّعي أنه تنبّأ باستقالة رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس (47 عاماً). فاجأت المرأة الجميع، أصدقاءها قبل خصومها، بمن فيهم الكثرة الكثيرة من أعضاء حزبها. حطّمت السيدة تراس الرقم القياسي في مكوثها أقصر وقت ممكن في "10 داوننغ ستريت"، فأعلنت استقالتها بعد 45 يوماً، ما سيجعلها تدخل التاريخ، ولكن ليس كبطلة على أي حال. أقصر فترة لرئيس وزراء بريطاني كانت لجورج كانينغ، الذي أمضى في المنصب 119 يوماً، من إبريل/ نيسان إلى أغسطس/ آب، 1827، على أنه لم يستقل، بل مات، وهو على رأس عمله.
وعدت السيدة تراس بأن تُحْدِث تحوّلاً جذرياً في اقتصاد بريطانيا العظمى وثرواتها، فتنعش الاقتصاد، وتستعيد دورة الحياة الاجتماعية الطبيعية. وكانت عدّتها لتحقيق ذلك سياسة ضريبية تعتمد خفض الضرائب على الشركات الكبرى. اعتقدت أنها ستطلق العنان لإمكانات البلاد بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لكن النتيجة جاءت معاكسة تماماً لسياسة تراس الاقتصادية، التي فشلت فشلاً ذريعاً، والتي ستكون، على الأرجح، سبباً في انتهاء حياتها السياسية في هذا الوقت المبكّر، ومدعاةً لتذكّر الناس لها واحدة من أسوأ رؤساء الوزراء في تاريخ بريطانيا.
حين دخلت السيدة تراس مكتبها في "10 داوننغ ستريت"، كشفت النقاب عما كانت ترى فيه فكرة عبقرية. كانت البلاد تمرّ في واحدةٍ من أكثر الفترات صعوبة، مع ارتفاع معدّلات التضخّم بشكل مريع واضطرار ملايين البريطانيين إلى التخلّي عن إحدى الوجبات، أو حتى المبيت على الطوى أحياناً. ورأت السيدة تراس أن الحلّ في تقديم إعفاءات ضريبية للأثرياء، كان من شأنها أن تجعل التضخم أسوأ بشكل كبير.
حين استشعرت السيدة تراس أن سياستها ستذهب بالبلاد وبها إلى الهاوية تخلّت عن خطتها، ولكن فقط بعد أن وقعت الواقعة وفات الأوان
لم تسر الرياح وفق رغبات السيدة تراس، بل أدّت فلسفتها إلى نتائج كارثية. تقول مؤسّسة فود فاوندايشن Food Foundation الخيرية إنه مع تفاقم أزمة تكلفة المعيشة في المملكة المتحدة، فإن واحدةَ من كل خمس أسر منخفضة الدخل تعاني من انعدام الأمن الغذائي، ما يعني أن عدد الذين يتعرّضون للجوع أكبر من عددهم في الأسابيع الأولى التي تلت إغلاق كوفيد-19. وتضاعفت منذ يناير/ كانون الثاني الفائت مستويات الجوع، حتى بلغت في الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) ما يقرب من عشرة ملايين بالغ وأربعة ملايين طفل غير قادرين على تناول وجبات منتظمة، ما أدّى إلى دعوات إلى اتخاذ تدابير أقوى لحماية الأسر الضعيفة.
وتدهورت قيمة الجنيه الإسترليني، وارتفعت تكاليف الاقتراض، ما جعل بنك إنكلترا المركزي يهرع بعد أن وقعت الواقعة وفات الأوان، وأثبتت الفوضى التي أوجدتها حكومتها، في النهاية، أنها غير قابلة إلى وضع خطة تدخّل طارئة لتدارك ما يمكن تداركه من الكارثة. بل وجدت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجييفا، نفسها مضطرّة إلى توجيه توبيخ لاذع للسيدة تراس ووزير ماليتها كواسي كوارتينغ، في أثناء لقائها أخيراً في نيويورك.
وحين استشعرت السيدة تراس أن سياستها ستذهب بالبلاد وبها إلى الهاوية تخلّت عن خطتها، ولكن فقط للاستمرار. بعدها، قرّرت السيدة تراس اللجوء إلى لعبة أخرى، وهي أن تضحّي بوزير ماليتها كبش فداء، فأقالت كوارتينغ، ولكن الإقالة لم تفعل سوى مزيد من الفوضى، وأدّت إلى تدهور أكبر، وانحدر الجنيه الإسترليني إلى مستوى 1.1199 دولار للجنيه الواحد.
استقالة السيدة تراس صفعة هائلة لكلّ أعمدة اليمين المتطرّف في العالم
ستشكل استقالة السيدة تراس صفعة هائلة لكلّ أعمدة اليمين المتطرّف في العالم. في الولايات المتحدة، كان قادة اليمين الأميركي يحتفلون بقرار تراس إجراء التخفيضات الضريبية الهائلة التي أعلنتها لأثرياء المملكة، باعتباره النموذج المحتمل للولايات المتحدة إذا عاد الجمهوريون إلى السلطة. وأبدى المعلّق الاقتصادي اليميني، ستيفن مور، حماسة غامرة، حين ظهر قبل أسابيع على قناة فوكس بيزنس اليمينية، قائلاً بابتهاج: "أحبّ ما تفعله ليز تراس في إنكلترا، وأعتقد أن هذه هي بالضبط الأجندة الصحيحة". وأضاف مستشار ترامب السابق أن تراس تفعل "بالضبط ما يجب أن تفعله الولايات المتحدة"، متوقعاً أن ذلك ما سيحدُث "إذا هيمن الحزب الجمهوري في نوفمبر بعد انتخابات منتصف المدة". فالجمهوريون يخطّطون بالفعل للضغط من أجل زيادة التخفيضات الضريبية التي كان الرئيس السابق ترامب ومؤيّدوه في الكونغرس السابق قد أقرّوها في 2017، فيما لو سيطروا على الكونغرس في انتخابات الخريف الجاري. ولا يأبه الجمهوريون في الولايات المتحدة بأن خططهم لتوسيع التخفيضات الضريبية تتعارض تعارضاً بيّناً مع وعودهم بمكافحة التضخّم وخفض العجز الفيدرالي، وهي التي تسيطر الآن على خطابهم الانتخابي في الانتخابات النصفية التي ستجري الشهر المقبل (نوفمبر/ تشرين الثاني).
على القادة الجمهوريين في أميركا أن يتعلّموا من الدرس الصاعق الذي قدّمته لهم مجّاناً ليز تراس في بريطانيا
لكن مهلاً. سيتعيّن على القادة الجمهوريين الآن أن يتعلّموا من الدرس الصاعق الذي قدّمته لهم مجّاناً السيدة تراس. فها هم يرون رأي العين كيف فشلت سياستهم في بريطانيا. لكن السؤال يظلّ: هل سيتعلّمون هذا الدرس؟ لا أعتقد. ليس لأنهم لا يدركون ذلك، فهم يعرفون قطعاً أن التخفيضات الضريبية لن تؤدّي إلا إلى زيادة التضخّم، لأنها تزيد الطلب الاقتصادي، وتؤدّي إلى اختلال توازنه مع العرض. بيد أن اليمين لا يفكّر إلا في نفسه، ولا يفكّر مطلقاً على المدى البعيد، ولذلك تراه يهمل مسائل كبرى، مثل البنية التحتية والتغيّر المناخي، ويهمل الاستعداد للوباء القادم، ويركّز فقط على كيف يزيد حسابات الأثرياء في المصارف، وينقص حسابات الطبقة الوسطى فيها.
أمام الأميركيين الآن مهلة أسابيع، ليقرّروا ما إذا كانوا يريدون حكومةً مثل حكومة تراس، تودي بالاقتصاد إلى ركود كبير، أو يريدون ترميم ما بقي من طبقتهم الوسطى المتآكلة. أما في بريطانيا العظمى، فستذهب ليز تراس إلى بيتها، فيما يحاول حزبها اختيار قائدٍ جديد له، لن يستطيع، في أغلب الأحوال، أن يخرج الزير من البير. لقد بدأت ليز تراس منصبها بحدثٍ حزين، إذ توفيت الملكة إليزابيث الثانية بعد يومين من تعيينها، وها هي تنتهي بمأساة اقتصادية كبرى، ستحتاج البلاد إلى سنوات كثيرة لتجاوزها.
باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.