درنة... إنهم يخشون توثيق فشلهم

22 سبتمبر 2023
+ الخط -

تقترب كارثة درنة الليبية من نهاية أسبوعها الثاني. في بلد طبيعي، يمكن تصور أن السلطات المعنية قد بدأت في تكوين صورة شبه نهائية عن عدد الضحايا وحجم الأضرار، وأطلقت عجلة رفع الأنقاض للتهيئة أمام إعادة الإعمار. لكن لأن الحديث عن ليبيا، لا يصبح مستَغرباً أنه حتى اليوم لم يُنتشل بعد العدد الأكبر من الضحايا، سواء ممن غمرتهم الفيضانات وهم في منازلهم أو في سياراتهم في أُثناء محاولة الفرار أو ممن ابتلعهم البحر. أظهرت الصور التي كانت تأتي من ليبيا منذ اليوم الأول للفيضانات بوضوح فداحة الكارثة بقدر ما عكست التخبّط في التعامل معها.

يمكن الحديث مطوّلاً عن التقصير في الدعم الدولي في عمليات الإنقاذ ومد يد المساعدة، إذ تفوق الكارثة قدرات أي سلطات ليبية، سواء في الشرق أو الغرب، وكان بإمكان دولٍ كثيرة أن تدفع بفرق إنقاذ إلى المنطقة، ولا تكتفي بإرسال مساعدات. لكن ذلك لا يبرّر كيفية إدارة السلطات المحلية الأزمة طوال الفترة الماضية. تتواتر منذ أيام المعلومات عن منع الصحافيين من الدخول إلى المدينة، وطلب مغادرتهم، ثم الإبقاء عليهم في المركز الإعلامي حصراً، كما مُنعت فرق إغاثة ومتطوعون من الوصول إلى المنطقة المنكوبة، حتى أن الأمر وصل إلى إعلان المتحدّثة باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، نجوى مكي، أن السلطات الليبية رفضت دخول فريق تابع للمنظمة الدولية كان من المقرّر أن يتوجّه إلى مدينة درنة الليبية يوم الثلاثاء الماضي، مطالبة بالسماح بوصول الفرق بدون عراقيل.

لم يبدأ كل هذا التضييق إلا بعد خروج أولى الاحتجاجات على السلطات في المنطقة، إذ طالب الأهالي بمحاسبة المسؤولين عن الفاجعة التي ألمّت بهم إلى جانب حل مجلس النواب. النظر في قائمة المطالب التي رفعت، ومن بينها مناشدة "مكتب الدعم في ليبيا التابع لهيئة الأمم المتحدة بفتح مكتب له بمدينة درنة وبشكل عاجل"، و"عقد مؤتمر دولي حول إعمار مدينة درنة"، و"رقابة دولية من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي على عملية إعادة إعمار مدينة درنة"، يبين أن لا ثقة للأهالي بالمسؤولين المحليين في مدينتهم. وبالنسبة إليهم، رغم هول الفاجعة، ليس هناك ما يشي أن ما سيجري في درنة في الفترة المقبلة سيكون مغايراً لما شهدته المنطقة في محطّات سابقة، سواء في ما يتعلق بالمحاسبة أو المساءلة أو إعادة الإعمار، بعدما عهد بالمجلس المكلف بذلك إلى شخصياتٍ خبر الأهالي جيدا سرقاتها ونهبها أموالهم.

ولكن الرد على ذلك كله أتى بفرض القيود تلو القيود على المدينة، بحجّة إدارة عمليات الإنقاذ. عملياً، ما تريده السلطات أن يُقتل الليبيون ويهجّروا وتدمر منازلهم من دون أن يغضبوا أو يعبروا عن استيائهم. تريد لهم أن لا يمتلكوا أي أجوبةٍ بعد نحو أسبوعين من الفاجعة عمّا إذا كانت جثامين ذويهم سيتم العثور عليها قبل أن تتحلل بالكامل، لكن بصمت، أو كما طالب رئيس برلمان طبرق، عقيلة صالح، الذي تجرأ على وضع ما جرى في إطار القضاء والقدر حصراً، مطالباً الليبيين بالتسليم بما حدث وعدم القول "لو فعلنا كذا وكذا..."، في إشارة إلى الأصوات التي كانت ترى أنه كان بالإمكان تخفيف حجم الكارثة لو كانت هناك صيانة للسدود أو منظومة إنذار مبكّر تحذر السكان.

وحتى الحديث عن وقف رئيس بلدية درنة، عبد المنعم الغيثي، عن العمل يبدو بمثابة ذرّ للرماد في العيون، لا سيما أنه قريب لصالح. تريد قوى الأمر الواقع في المدينة احتكار الصورة التي تخرج من المدينة، مدفوعة بخشيتها من أن ينفجر الغضب الشعبي، وأن تكون مستعدّة لممارسة الأمر الوحيد الذي تجيده، أي القمع، من دون وجود من يوثق ذلك من وسائل الإعلام في زمن في وسع كل من يمتلك هاتفاً ويرفعه عالياً أن ينقل الصورة ويوثّق حجم الفشل.

جمانة فرحات
جمانة فرحات
صحافية لبنانية. رئيسة القسم السياسي في "العربي الجديد". عملت في عدة صحف ومواقع ودوريات لبنانية وعربية تعنى بالعلاقات الدولية وشؤون اللاجئين في المنطقة العربية.