دراما إيلون ماسك... ذكاء علمي وغباء سياسي
في السلسلة الدرامية الأميركية "Salvation" (الخلاص)، يقدّم صنّاع العمل للجمهور شخصيةً مثيرةً لرجل أعمال طموح ومثابر، يتركّز نشاطه في الأعمال التقنية والعلمية، يتدخّل في تحديد مصير كوكب الأرض، المهدّد بسقوط نيزك مُدمِّر، في ظلّ فشل الحكومة الأميركية في معالجة المشكلة.
أوقفت الشركة المنتجة مسلسلها هذا بعد موسمَين ناجحَين (2017 - 2018)، ولم تغامر بإنتاج جزء ثالث يوضح إلى أي حال انتهى مصير العالم، في وسط صراعات عدّة خاضها أبطاله، وفي مقدمهم المغامر داريوس تانز، الذي تقوده الأحداث إلى تولّي رئاسة الولايات المتحدة مؤقّتاً، في وسط انعدام آفاق الحصول على حلّ من السياسيين التقليديين.
يمكن في أيامنا هذه، وبالقياس إلى دراما الخيال العلمي أعلاه، إجراء مقاربة بين الواقع والخيال، حين نرى كيف تتحوّل شخصيةٌ واقعيةٌ، مثيرةٌ أيضاً، إلى ما يشبه التي قدّمتها الدراما، إذ تسمح بذلك مغامرة رجل الأعمال إيلون ماسك الراهنة، ولا سيّما في جزئها الخاص بالتحالف مع الرئيس المنتخب دونالد ترامب، ثم تولّيه منصباً في الإدارة الأميركية.
دنوّ رجال الأعمال من السياسة غير مستغرب، هذا أمر طبيعي في بلدان الاقتصاد الحرّ، ولا يُستهجَن هنا بحث الرئيس الأميركي عن وجوه مالية وعلمية يزيّن بها إدارته، فهو في هذه الحالة يعثر على الجانبَين، وقد أثبت ماسك أنه خيار ممتاز له بعد أن قاد جحفلاً من الرأي العام إلى الصناديق من أجل انتخاب ترامب، ولم يبخل عليه لا بالمال ولا بالجهد. وبالتالي، يعدّ تكليفه بمنصب ما ردّاً للمعروف أيضاً. وبالنظر إلى ترحيب بعض الأوساط بهذه الخطوة، لجهة تعظيم حضور النُخَب في عالم الإدارة والمال والتقنيات وعوالم الإنترنت والفضاء في الأروقة السياسية، والإشادة بقدرتها في التأثير، فإن سؤالاً يلحّ علينا، يتعلّق بجِدّية الافتراض أن لدى ماسك قدرات مختلفة تُمكّنه من أداء دور ما في تحسين الوضع السياسي والإداري للإدارة الأميركية، عبر قيادة وزارة مستحدثة تعنى بـ"الكفاءة الحكومية"، ينصبّ اهتمامها على خفض الهدر.
تتزاوج السياسة مع المال، وينجبان قوىً طامحةً، شرهةً، لا يهمّها سوى تملّك المزيد
ماسك أنموذج لرجل الأعمال المُسرِف، وتجاربه الحياتية والعملية توضّح هذا، إذ يمكن الوقوف عند حجم إنفاقه المغامراتي على مشاريعه، قبل أن تصبح رابحةً، ويمكن أيضاً التحقّق من أنه في مقابل النجاحات في بعض المشاريع، فّإن ثمّة مشاريع أخرى خاسرة وبجدارة، فالنجاح في إطلاق الصواريخ نحو المدار المنخفض للأرض، ثمّ استعادتها، وهو ما تقوم به شركة الفضاء سبيس إكس، لا يخفي فقدان كثيرين مالاً كثيراً في سبيل إنجاح التجارب السابقة للعملية، كما أن أحداً لن يسأل عما أنفقه من أجل خطّته الغريبة لغزو المريخ، والاستثمار فيه، لأن المال هو ماله الشخصي، ومن خلاله غامر بمشروع السيارة الكهربائية تسلا، وعبره يمكنه الإنفاق بلا حدود على مشاريع تُصنّف خاسرةً أيضاً، مثل "نيورالينك"، المشروع الذي يهدف إلى إيجاد القدرات لدى العقل الإنساني، من أجل التحكّم بالتقنيات، مروراً بمساعدة مرضى الشلّل، وكذلك شركة حفر الأنفاق ذا بورينغ كومباني، التي ما زالت تستهلك المال من دون أن تعيد منه شيئاً.
ويبقى في هذا السياق المثال الأكثر إثارة لموضوع الهدر ممّا يحتكّ به الإنسان العادي في وقتنا الراهن، إنما هو شراء ماسك منصّة تويتر بمبلغ خرافي (44 مليار دولار)، من أجل لا شيء استثماري مالي، سوى القدرة على السيطرة، والاستفادة من هذا للتحكّم بما يفكّر فيه ويقوله البشر.
يعتبر كثيرون أن من مصلحة البشرية أن يتكرّر أنموذج إيلون ماسك، لأن المغامرات التي يخوضها (هو وأشباهه) تحقّق اندفاعات في جوانب يحتاجها الإنسان كي يتطوّر، وهذا إيجابي بالمعنى العام، ولكن ما هو سلبي تماماً إغفال الجوانب القاتمة من المشهد، لا سيّما حقيقة أن ثمّة فائضاً من الوهم بشأن قدرة هؤلاء على إصلاح الحياة الإنسانية، وإنقاذها من مصير مميت، من خلال مثالياتهم وحدها. هنا نستعيد الأنموذج الدرامي الذي افتتحنا القول به، فالشخصية الافتراضية التي تريد إنقاذ الكوكب لن تستطيع أن تفعل هذا من خلال العلم فقط، بل تحتاج إلى وضع كلّ شيء في يد الدولة ذات الموارد غير المحدودة، ومن خلفها دول العالم كلّه، ما يجبر رجل العلم المثالي الجذّاب، تانز، على الغرق في المستنقع القذر للمال والسياسة، الأمر الذي يزيد خسارات الشخصية المثالية ويحيلها أخرى حياتيةً وواقعيةً، ما يؤدّي إلى تداعي الأنموذج الذي يطمح الجميع بتوفّره، فهو لن يستطيع إكمال حضوره ومهمّته إلا عبر المشي على الأرض، وترك الأفكار التي تطير به فوقها. حصل هذا مع كثيرين من رجالات العالم في عصور مختلفة، لكنّ أحداً لم يتعلّم الدرس، إذ يأتي أشخاصٌ مثل هؤلاء إلى المشهد بحماسة كبيرة، ثمّ ينقلبون على أفكارهم، ويتحوّلون أدواتٍ في يد النظام ذاته، إذ تتزاوج السياسة مع المال، وينجبان قوىً طامحةً، شرهةً، لا يهمّها سوى تملّك المزيد.
إيلون ماسك أبرز مغامرات ترامب، لكنّ الآمال لا تُبنى على الفقاعات
في الأرضية ذاتها، وبعيداً من الدراما، يأتي ترامب في عهده الثاني إلى العالم بمجموعة مغامرات، ربّما يشكّل ماسك أبرزها، لكنّ الآمال الكبيرة لا تُبنى على الفقاعات الآنية، إذ لا يوجد لدى ماسك بالأصل مشروع سياسي، كما أن تدخّلاته في هذا المجال تبدو هوائيةً، لا تستند إلى وعي متماسك، وقد تبدو متناقضةً، تختلف بحسب رؤيته لتوضّعات مصالحه، وقد يرى بعضهم أن مواقفه تنحو إلى أن تكون غبيّةً، طالما أنها لا تستند إلى رؤىً محدّدة وثابتة، ومثال ذلك هجومه على القضاء الإيطالي قبل يومَين بسبب صدور حكم يعارض سياسات رئيسة الوزراء اليمينية جورجيا ميلوني تجاه اللاجئين.
أخطر ما في الأمر، التباين بين صغر حجم المسؤولية الشخصية في عالم الشركات الخاصّة، الأمر الذي يسمح لأصحابها بدخول مغامرات غير محسوبة النتائج، والمسؤولية الكبيرة للدولة، لا سيّما في نشاطها تجاه مجتمعها، التي ستكون التجاوزات فيها منبعاً لمساءلات يتربّص خلفها أعداء ترامب السياسيين. تفاصيل قصّة إيلون ماسك تبدو عرضاً لأفلام قصيرة في منصّة تيك توك، بعضها مثير، وبعضها الآخر مكرور ومملّ، لكن ثمّة دائماً من يرغب بالمزيد، طالما أن صانع الألعاب أو المحتوى، لديه القابلية لأن يعيد الكرّة.