درءاً لزحف التصحّر الثقافي

20 يونيو 2023

مقرّ مكتبة أزبكية عمّان ... متنقّلة تبيع الكتب بأسعار زهيدة (العربي الجديد)

+ الخط -

ما أن تناهى إلى سمعي أن إحدى المكتبات العريقة في عمّان بلغت نهاية الشوط، وصارت على بُعد مرمى حجر من محنة الإغلاق الاضطراري، شأن معظم مخلوقات العصر الورقي، وهو أمر لا يغيظ سوى المتورّطين بحرفة الكلمة، حتى أخذت ألملم شتات نبضي وأشدّ بعضي على بعضي، استعداداً للخروج من دائرة محبسي الإرادي، ومن ثمّة الانخراط في فعالية توافق نفر من المخاطبين بهذا الحدث المؤلم على إقامتها أمام تلك المكتبة التي بات عمرها الثري بالكتب القيّمة والإصدارات المتنوّعة، قيد إغلاق وشيك، تحت وطأة أعباء ثقيلة، لم يعد في الوسع حملها على كتفيْن نحيليْن نالت منهما عاديات الدهر والقهر والفقر.
تلك النافذة الثقافية المفتوحة على مدار الوقت أمام الكتّاب والقرّاء، منذ نحو عقدين، المعروفة باسم "أزبكية عمّان"، أخيراً دار عليها الزمان الذي لا يرحم ولا يقدر عليه قادر، وعصفت بها عواصف المتغيّرات الآتية من وراء الفضاء، حتى باتت قاب قوسين وأدنى من نهاية النهايات، وهو أمر يستقطر الأحزان قطرة قطرة، يُنشّف الريق، سيما لدى أهل القلم والنون وما يسطرون، هؤلاء الذين يضربون كفّاً على كفّ كلما انطفأ نجم ثقافي في السماء، يندبون سوء الحظ، ومكر الدهر وتقنيات هذا العصر، كلما توقفت صحيفة عن الصدور، او كفّت دار طباعة ونشر عن الإصدار.
هذه الواقعة الثقافية الكئيبة، وهي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة حتماً، أثارت في النفس موجة أسى علت فوق دفّة السفينة المتهالكة، تمكّنت مني، فاستبدّت بي حمية داخلية طارئة، دفعتني دفعاً صباح يوم الجمعة الفائت لعمل شيءٍ ما، لصرف احتقان تلبّد في فضاء الروح، للتعبير عن حزن فوق شخصي فاض عن الحدّ، والإعراب عن غضب ذاتي أدبي أخلاقي عارم، وهكذا لم أجد لي مهرباً من المشاركة في وقفة تضامنية مع صاحب الأزبكية الصديق حسين ياسين، الذي وجدتُه، حين وصلت، متأهّبا مع أسرته الصغيرة لاستقبال كوكبة من المثقفين والكتاب المروّعين مثلي، وربما أكثر، جرّاء هذا المآل الزاحف على مطارحنا العزيزة زحف رمال الصحراء على حدائق البيوت.
كان أمراً طيباً ومقدّراً أن تنضم وزيرة الثقافة هيفاء النجار، على غير توقّع مني على الأقل، الى رهط من مثقّفي العاصمة المتضامنين مع أزبكية عمّان، وأن تطيل الوقوف مع عشرات من المحتجّين على إطفاء منارة متواضعة، لأسبابٍ محض مالية، وأن تقول أمام الحضور كلاماً دافئاً عن الثقافة والمثقفين، وعن الدار المهدّدة بالإغلاق، وفوق ذلك أن تُقدم الوعود بالدعم والإسناد، وبذل كل ما في حولها كي يظلّ باب الأزبكية مفتوحاً إلى ما شاء الله، الأمر الذي شدّ من أزر حسين ياسين، ومنحه قدراً لا بأس به من السكينة، التي كان في أشد الحاجة إليها، للصمود أطول، والمثابرة بلا كلل على الدرب الذي أبلى عليه الرجل أحسن البلاء.
وكان طيباً أيضاً أن تفعل تلك الوقفة التضامنية فعلها الإيجابي المثمر، حيال مكتبةٍ في حجم مشروع ثقافي ناجح، ومشهود له، وأن يفضي احتجاج كوكبة صغيرة من أصدقاء الأزبكية وروّادها إلى رد الاعتبار لصاحبها، الذي هدأت روحُه المعلقة على رفوف مكتبته ذات الحضور الباذخ في معارض الكتب العربية، عاماً بعد عام، واكتشف بأم عينه أنه لم يكن وحيداً في معركة البقاء على قيد النضال خادماً محترماً للمعرفة والتنوير، وعادة القراءة التقليدية، على الأقل لجيلٍ لم ينقرض بعد، وفق ما بدت عليه أعمار المتضامنين في ذلك الصباح، أولئك الذين تقاطروا من تلقاء أنفسهم، ربما تعبيراً عن حنينٍ إلى الماضي الجميل، حتى  لا نقول إنه التعلق بعصر أخلى مكانه في الواقع لمخرجات زمن الثورة التكنولوجية، بما فيها الكتاب الإلكتروني.
بكلام آخر، أحسب أن هذه الوقفة التضامنية، بدلالاتها الرمزية، كانت بحسب النتيجة الفورية، عملاً ثقافياً مثمراً، وجماعياً بالضرورة، أسهمت فيه وزيرة الثقافة بتواضع جمّ، أدّى، فيما أدّى إليه، إلى إشاعة قسط من الرجاء والثقة بقدرة الثقافة على الصمود بعد، وتأكيد أن المثقفين ليسوا أيتاماً على مائدة التكنولوجيا كل هذا اليُتم، إضافة إلى أن أزبكية عمّان صامدة في وجه آفة التصحّر الثقافي الزاحف. ولولا الخشية من استجرار تهمة المبالغة، لقلنا إن هذه الوقفة التضامنية النادرة، بمشاركيها الذين ملأوا رواق المكتبة وعتبات أبوابها، كانت بمثابة هجمة مضادّة، وإن كانت صغيرة، ضد التصحّر الثقافي بكل أشكاله وألوانه.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي