دخيلك يا حافظ الأسد
حدثني صديقي الفنان أسعد فرزات، نقلاً عن صديقه الفنان عبود ميم، قال: كنت أؤدي الخدمة العَسكرية في إحدى القطعات المتمركزة على الجبهة مع إسرائيل. وكنا، نحن الجنود والضباط ذوي الرتب الصغيرة نخاف من قائد اللواء إبراهيم طاء، من دون أن نعرفه عن قُرب، فنحن، أساساً، لا نراه إلا قليلاً، وهو، بحسب النظام العسكري، لا يسمح لأحدٍ أن يقترب منه أقل من ست خطوات، ولكنه، إذا تحدّث مع أحدنا، وغضب، يطلب منه الاقتراب، رويداً رويداً حتى يصبح في مرمى يديه ورجليه، ووقتها يباغته بلطمةٍ تجعل حنكَه يَخرج من مكانه، أو يرفسه في وسطه، فيجعل صوابه يطيش، وحينما ينتهي من تعجيقه يرفسه من الخلف، ليسير مسرعاً، بالقوة النابذة، عائداً إلى حيث كان يقف في البداية، لكنه لا يعود قادراً على الوقوف هذه المرة.
وأما بالنسبة إليَّ، فقد كان الأمر مختلفاً. ففي يوم من الأيام، علم (سيادتُهُ) أن في لوائه فناناً تشكيلياً، هو أنا، فأرسل في طلبي على جناح السرعة، فلما أصبحتُ أمامه، وقلبي يرتجف هلعاً، قال لي، متّخذاً هيئة الأب الذي يريد أن يفاجئ ابنَه بأنه قرّر تزويجه الفتاة التي يحبها:
- يا ابني، يا عبود، أنت حظك من السما. سيكون لك شرف رسم صورة القائد حافظ الأسد على هذا الجدار الذي يطلّ على مسبحي الخاص مباشرة، وأريدها صورةً لا تشبهها صورةٌ مما يُرْسَمُ لسيادة الرئيس في كتائب الجيش، وألويته، وفرقه، ولا داعي للعجلة، (مَزْمِزْ فيها على مهلك)، فلدينا متسعٌ من الوقت حتى موعد الحركة التصحيحية المباركة في السادس عشر من نوفمبر/ تشرين الأول المقبل.
حينما أنهى كلامه، تنفستُ الصعداء، وقلت له: أنت تأمر سيدي.
واللواء إبراهيم طاء يأمر، بالفعل، فيُطَاع، إذ بمجرد ما أنهى كلامه وغادر المكان، هرع فريقُه الخاص لتأمين ما يلزم لي من الإطارات الخشبية، والأقمشة البيضاء، وفراشي التلوين، وعلب الدهان، وزيت الأساس، وأدوات الحفر والحَفّ والتسوية، إضافةً إلى ما يتطلبُه مزاجي الشخصي من مأكولاتٍ ومشروبات... وبعد أقل من ساعة، صدر أمرٌ خطيٌّ مُذَيَّلٌ بتوقيع سيادة اللواء، يتضمن إعفائي من الدوام، والاجتماع الصباحي، وتحية العلم، والسماح لي بالنزول إلى دمشق مساء، في سيارة مبيت الضباط، على أن أعود في الصباح، لمتابعة عملي الذي وصفه سيادة اللواء بأنه: عمل مُشَرِّف.
وبعد عدة أسابيع من العمل المتواصل، وبينما أنا أضع اللمسات الأخيرة على تلك اللوحة الجميلة، إذ رأيتُ موقفاً أذهلني. فقد تسلل مجندٌ من "دورة الأغرار" التي تُقام في مكان مجاور للمسبح، وهو لا يعرف شيئاً عن شخصية اللواء إبراهيم، ولا عن عائدية المسبح له، وبدأ خلع ملابسه، وقذف نفسه في الماء مثل سمكةٍ مرحة، وهو يردّد واحدةً من أغاني ذياب مشهور تقول (والله لأعبر مَيّتْكُم، وإن قالوا لي غريقة)، وبالمصادفة المحضة، ظهر اللواء إبراهيم، عاريَ الصدر، متدلي الكرش، ومعه أركان حربه من المرافقين الأشدّاء الذين يتمتعون بأشكالٍ تصلح لإيقاع الرعب في نفوس الناس، بسببٍ أو من دون سبب.
وبلمح البصر، لاحظ هؤلاء أن سيادة اللواء بدأ يغضب، فهرعوا نحو المجنّد، وسحبوه من الماء، ودفعوه إلى حيث يقف اللواء الذي كان يغلي من شدة الغضب... وفجأةً، وقبل أن يبدأ لطمه وتعجيقه، وكما لا يمكن لأحد أن يتوقع، ارتمى العسكري على صورة حافظ الأسد، وقال له:
- دخيلك يا سيدي يا أبو سليمان، أحب على شواربك، وواقع على حريمك، خلصني من هذا الرجل المغضوب الذي وجهه يقطع الرزق...
وبينما انفلت اللواء إبراهيم بالضحك، وأدار وجهه لئلا تقل هيبتُه أمامنا، انتبهتُ أن يَدَيّ العسكري، في أثناء وقوعه على الصورة، قد شوهتاها، فجعلتا وجه الأسد شبيهاً بوجه العسكري نفسه، فيما لو تعرض لضربٍ مبرح من سيادة اللواء إبراهيم طاء.