دبلوماسية بايدن وسيف الإسكندر
أفرجت السلطات المصرية عن الصحافي في قناة الجزيرة، محمود حسين، بعد قضائه أكثر من أربع سنوات في "الحبس الاحتياطي" من دون اتهامات رسمية أو محاكمة. ثم، يوم الأربعاء الماضي، أطلقت السلطات السعودية سراح الناشطة لجيْن الهذلول، التي اعتُقلت في مايو/ أيار عام 2018، مع ناشطات أخريات. وبعد سويعات، تحرّرت المدوّنة السعودية، نوف عبد العزيز، بعد أكثر من سنتين ونصف السنة في السجن. وقد جرى ذلك كله بالتزامن مع حلحلة في الملف الليبي مع الوصول إلى اتفاق حول سلطة موحدة في ليبيا، وبدء مرحلة انتقالية جديدة، غداة انتخاب سلطة تنفيذية موقتة وموحدة، عليها تشكيل حكومة، والتحضير للانتخابات الوطنية المقرّر إجراؤها في ديسمبر/ كانون الأول المقبل، لإنهاء عقد من الفوضى منذ سقوط نظام معمّر القذافي عام 2011. وحتى المشهد السياسي الفلسطيني الداخلي، القابع في مربع الانقسام وانغلاق الأفق منذ سنوات، أخذ بالحلحلة في الأيام القليلة الماضية مع توافق الفصائل الفلسطينية في القاهرة، الثلاثاء الماضي، على المضي في إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية وانتخابات المجلس الوطني، كما حدّدها المرسوم الرئاسي الصادر منتصف الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، والتعهد باحترام نتائجها وقبولها، في خطوةٍ اعتبرها مراقبون بارقة أمل نحو معالجة آثار الانقسام السياسي الفلسطيني بكل جوانبه. ملفات أخرى، من قبيل ملف إيران النووي، وعودة جميع الأطراف إلى اتفاق 5+1 الشهير، تشهد هي الأخرى حلحلة، من المرجّح أن تفكيك أعصى عقدها يجري في الكواليس، بعيداً عن السجال الإعلامي الظاهر بين واشنطن وطهران. لم يُستثن الملف اليمني من مناخ الانفراج هذا، إذ دعا الرئيس الأميركي، جو بايدن، بجدّية وصرامة إلى إنهاء الحرب في اليمن، معلناً وضع حد لـ"الدعم" ولـ"مبيعات الأسلحة" الأميركية للتحالف العسكري الذي تقوده السعودية، مع تكثيف العمل الدبلوماسي لإنهاء حربٍ، يقول بايدن، إنها "تسببت في كارثة إنسانية واستراتيجية".
وكأن عُقد غورديه (عقدة قطعها الإسكندر المقدوني) التي ربّطت العالم سنوات خلت قد بدأت بالحلحلة، بعد انصراف دونالد ترامب ووصول جو بايدن وكامالا هاريس إلى البيت الأبيض، بعد مشوار انتخاباتٍ ديمقراطيةٍ تخللته مطباتٌ كثيرة. يبدو الرئيس بايدن، الذي دأب ترامب على نعته بـ"جو النائم"، مُصّراً على تطهير العالم من إرث ترامب وإدارته على طريقة الإسكندر الأكبر في حلّ عقدة غورديه، بضربات سيف سريعة وباترة، بدلاً من التعامل مع الأزمات المُزمنة بالطرق التقليدية، كسياسة الخطوة خطوة، أو دبلوماسية حافّة الهاوية، أو حتى دبلوماسية صفقات الابتزاز الترامبية.
تروي الأسطورة أن الفوضى سادت مملكة فريجيا في زمنٍ خلى عرشها من ملك، فتنبأت عرّافة أن أول من يُقبل عليهم بعربةٍ يجرّها ثور سوف يصبح ملكًا عليهم. وبعد فترة، جاء رجل قوي يدعى غوردياس أو ميداس، دخل المدينة بعربةٍ يجرّها ثور ضخم، فنصبّه الكهنة ملكًا، وتم ربط عربته بعقدة محكمة صعبة الحل أمام معبد في مدينة غورديوم التي أسسها غوردياس (آثارها ماثلة شمال أنقرة). ثم قال الكهنة أن من سيحلّ العُقدة سيكون له شأن عظيم، وسيكون العالم ملكًا له. وعلى مدار الزمان لم يستطع أحد فك العقدة الغوردية، ولا حل اللغز ، حتى جاء الإسكندر الأكبر واتخذ القرار بحلها، ولكن بضربة من سيفه، وهو ما عُرف منذ ذلك الزمن بـ"الحل الإسكندري". وارتبطت أسطورة "عقدة غورديه" بالقرارات الحاسمة التي تفكّ الأزمات العصية على الحلول السهلة. كما يشير الحل الغوردي إلى أهمية القرار الشجاع الجريء في تغيير مسار التاريخ.
لا يكفّ الرئيس الـ46 للولايات المتحدة، منذ تنصيبه في العشرين من الشهر الماضي، عن تذكير العالم بأن "أميركا عادت والدبلوماسية عادت"، لكن سلوك إدارة بايدن يشير إلى دبلوماسيةٍ لا تعدم الضرب بسيف الإسكندر، عندما تعجز الجزرة عن حل العقد الغوردية. دبلوماسية ذكية يبدو أن بعض ثمارها نضجت قبل تمام الشهر الأول من عهدة بايدن.