خيار وقف الحرب في السودان

07 سبتمبر 2024
+ الخط -

في أيامها الأولى، حرص الجميع على حساب مدّة استمرار حرب السودان. فلا تُذكَر إلّا مع مدّتها. بدأت بالحرب التي تدخل يومها الثاني، ثمّ انتقلت سريعاً الى الحرب التي تدخل شهرها الثاني. وبعد دخول العام الثاني، سينسى الجميع أهمّية الحساب، إلّا بعض صفحات الإنفوغراف.

ما حذّر منه أحدُ المسؤولين الأمميين في أسابيع الحرب الأولى يتحقّق، فالحرب أصبحت أسلوبَ حياةٍ. وبشكّل ما طبّع الجميع معها. ومن يرونها حلّاً وأسلوبَ حياةٍ يتحدّثون عن عدم رفضهم لوقفها، لكنّهم يتساءلون: كيف تقف وفي صالح من؟... هذا سؤال منطقي مقبول، في ظروفٍ ربّما أقلّ كارثيةً ممّا يعيشه السودان. فللأسف، يموت طفل في السودان كلّ ساعتَين بسبب الحرب. وتزحف المجاعة نحو المحاصرين داخل المدن ومعسكرات النزوح، بينما يلعب طرفا الحرب لعبةَ السلطةِ عند معابر (ومسارات) دخول قوافل الإغاثة والمعونات.

لا يتورّع الطرفان عن استخدام الجوع سلاحاً، بقطع الإمداد مثلاً عن المدنيين في مناطق سيطرة الخصم، مثلما تعنّت الفريق أوّل عبد الفتّاح البرهان، وأعلن في فبراير/ شباط الماضي رفضَ الجيش دخولَ أيّ إغاثة إلى مناطق سيطرة "الدعم السريع" ما لم تستسلم. وهو ما تراجع عنه لاحقاً بعد مكالمةٍ من وزير الخارجية الأميركي، ومخاطبته بلقب "رئيس مجلس السيادة الانتقالي" من المبعوث الأميركي. كان ذلك يستحقّ شهوراً من جوع مواطنين سودانيين، حسبما يرى قائد الجيش، أو مثلما تفعله قوّات الدعم السريع، التي تخاطب العالم بلسان حقوقي مُبين، ثمّ تهاجم قوافل الإغاثة وتختطفها.

تُوقّع قوات الدعم السريع مع كلّ راغب؛ وقّعت مع الجيش اتفاقاً في جُدَّة، ثمّ مع تنسيقية القوى الديموقراطية والمدنية في أديس أبابا، ثمّ مع القائد العسكري الفريق شمس الدين كباشي في المنامة. وتقدّم الوعود والتعهّدات لكلّ مبعوث دولي زائر أو مسؤول أممي عابر، ثمّ لا تكلّف نفسها عناء قراءة ما وقّعته، أو تذكّر ما تعهّدت به. تَعِدُ صباحاً بحماية المدنيين، وتستبيح قراهم ظهراً، ثمّ تقصف مدنهم ليلاً. والحُجَّة الدائمة محاربة فلول النظام السابق. ترى قوات الدعم السريع فلول النظام السابق في كلّ مكان، في بيوت المزارعين ومطابخ ربّات المنازل وسيّارات المواطنين، إلّا في كابينة قيادتها وكتيبة إعلامها. ويبدو أنّ الفلول لا يراهم في جواره أحدٌ. فحتّى قائد الجيش، وهو يجلس إلى منصّةٍ تئنّ بهم في قاعة ممتلئة بهم، يتساءل أمام الإعلام "أين هم؟".

يصرخ العالم أنّ المجاعة تفتك بالبلاد، فينكر الجيش، ويُصدّقه الوطنيون، حتّى وهم يموتون جوعاً، مذكّرين بقول أحمد مطر: "لُعن الشعب/ الذي ينفي وجود الله/ إن لم تثبت الله بياناتُ الإذاعة". وينادي الدعم السريع العالم لإغاثة الجوعى، ثمّ يقصف الجوعى. تأتي الكوليرا والسيول، ويتساءل العقل المتوهّم: "هل السيول جزء من المؤامرة العالمية ضدّنا؟ هل أغرقونا بالاستمطار؟".

وبينما تنتشر نيران الحرب الأهلية، وتتفكّك البلاد، وتتلبّس الحرب وجوهاً عدّة، يريد من يقدرون أن يوقفوا الحرب أن يضمنوا أنّها لمّا تفعل ستفعل بشروطهم، فهو انتصار في دثار وقف الحرب. لا أحد يريد وقف الحرب. الجميع يريد أن تقف الحرب بانتصاره. وهو طموح عجيب بعد مرور هذه الشهور كلّها، التي لم يعد يهتمّ بحسابها أحدٌ، وبعد موت الأرواح التي لم يمشِ في جنازتها أحدٌ.

لا تبدو أطراف الحرب راغبةً في وقف الحرب، ثمّ مواصلة الصراع السلطوي بأدوات أخرى أكثر سلمية. وفي الحقيقة، لم تعد أطراف الحرب قادرةً على وقفها، ولو رغبت. فمع صعود القبيلة إلى قمّة الهرم بشكل مُعلَنٍ لا حياء فيه، مُؤكِّدةً أنّ كلّ مواطن سوداني محميٌّ بقبيلته، وبموقعها من أطراف الصراع، في رِدَّةٍ عن مكتسبات الدولة الحديثة، ومع انتشار التسليح، حتّى إنّ المناطق والقبائل تشتري الأسلحةَ القتالية علناً، ومع السعار الدولي، بعد دخول روسيا والصين وإيران الملعبَ السوداني، لا يبدو أنّ حليفَي المجلس العسكري القديم قادران على وقف الحريق الذي أشعلاه. لذلك فإنّ إطالة أمد الحرب تبدو لهما خياراً أكثر أماناً. فربّما بعد أسبوع أو أسبوعين تحدث معجزة، ويمكن وقف الحرب حسب شروط أحدهما.

لكنّ الكارثة أنّه حتّى هذا ربّما لم يعد خياراً مُتاحاً.