خفّة حزب الله التي لا تُحتمل
حطّت علينا في لبنان قصة ترسيم الحدود البحرية مثل زوبعة بفنجان. كانت موجودة من زمان، ونحن غير منْتبهين إليها. قيل إن ملفها كان بيد نبيه برّي، منذ عشر سنوات. والآن انتقلت إلى رئيس الجمهورية. والشيء الوحيد الواضح في القضية أن محرّكها هو حاجة الغرب إلى النفط. فهذا الترسيم البحري غَرَضه وضع الخطوط الفاصلة بين لبنان وإسرائيل، بغية تثبت كل دولة منهما من الحقول التي يحقّ لها استخراج نفط تحتاجه أميركا وأوروبا بإلحاح. فكان ثمّة قبل وبعد: قبلها، ارتفع صوت حسن نصر الله، وخاضَ في تهديدات حربية، وأعلن استنفارات لـ"مجاهديه" على الحدود مع إسرائيل، وقال لأنصاره ولأعدائه: "سجِّلوا هذه المعادلة، سنذهب إلى (حقل) كاريش وما بعد كاريش!"، ناسياً أنه أطلق منذ سنوات "معادلة" لا تقل طموحاً "سنذهب إلى حيفا وما بعد حيفا".
وكالعادة، هاجمَ نصر الله الأميركيين الذين أرسلوا وسيطاً لمفاوضات ترسيم الحدود البحرية: "الوسيط الأميركي (عاموس هوكشتاين) لا نعتبره وسيطاً، بل هو طرفٌ يعمل لمصلحة إسرائيل ويضغط على الجانب اللبناني". ومن علامات "ذكائه" أنه "سلّم الموضوع للدولة". فهو "يثق" بالدولة، "يدعمها" في المفاوضات، "يوافق" على قرارتها... إلى ما هنالك من عبارات الاحترام والتهيّب لكيان "الدولة" الذي قضمه لُقمةً لُقمة، بلا كَلَل، هو وحلفاؤه وأعدقاؤه.
ودارَ الوسيط الأميركي بين الدولتين، يقابل رؤساء الواجهة في الدولة المنكوبة، يستمع، يصرّح، يلاحظ.. ثم إعلان عن اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، لا نعرف عنه إلا القليل التالي: تتقاسم إسرائيل مع لبنان حقل قانا وحده، من دون كاريش، ويعطي لبنان نسبة 17% منه "تعويضاً" (عن ماذا؟) لإسرائيل، تتسلّمه شركة توتال إنيرجي، المتخصّصة بإدارة استخراج النفط. تبقى "خطوط العوّامات" قائمة. والأهم أن الاتفاق يتم بإشراف الأميركيين ويُعتبر رسمياً، وتذهب نسخٌ منه إلى قوات السلام الدولية، وإلى الوسيط الأميركي، عاموس هوكشتاين، وإلى الأمم المتحدة. وهو يضمن أمن إسرائيل، وترعى أميركا تنفيذه بالاشتراك مع أوروبا والدول العربية.
بات إنكار التطبيع موضوع الساعة الوطني: انظروا .. هل صافحناهم؟ هل تكلمنا مع مندوبيهم؟ ألم نرفض التوقيع على ورقة واحدة؟
مرّر الاتفاق كل هذه التنازلات في غَمضة عين. والأرجح أن بنوداً سرّية تحكمه أيضاً. وفوق أنه تخلّى عن خط 29، وقنع بخط 23، رغم كل النتائج التي بلغتها دراسات الجيش والمؤرخين والخبراء، لم يناقشه أحد. لا الوزراء اللبنانيون، ولا النواب ولا المواطنون ولا زعماء الأحزاب الحاكمة. إذ دار بينهم التنافس على قطف ثمار هذا الإنجاز العظيم "أنا عرّاب الاتفاق! لا أنا...!". (اللهم تغريدة ابن المنظومة، وليد جنبلاط، الشكّاكة، التي يتساءل فيها عن غياب الجيش من حفل توقيع الاتفاق، وعن كونه يثبت اتفاقية الهدنة بين لبنان وإسرائيل عام 1949، وعن الصندوق السيادي، وعن توقعّه بأن الاتفاق سيخضع لهندسة مالية مصيرها الهدر). ولكن همروجةً أخرى كانت شغّالة في هذه الأثناء. حسن نصر الله مرّة أخرى: مهمتنا أُنجزت. نجحت المقاومة في المهمة التي ألقتها على عاتقها. انتهت بانتصارٍ كبير وكبير جداً للدولة والشعب والمقاومة. كانت تجربةً مهمة وغنية، سنحصل على كنز قيمته 500 مليار دولار، فدارت تلقائياً أحاديث التطبيع على الألسنة، والمواقع والمواقف وبين "المؤثِّرين" الشَبَكيين. وأعلن الأكثر استعجالاً من بينهم أنه بعد هذا التوقيع صارَ يحقّ له أن يطلب الحج إلى القدس، كما كان يفعل أجداده. فدخلت البروباغندا الممانعة على الخط، بعدما أعطى نصر الله إشارة البدء، "هذا ليس تطبيعاً مع إسرائيل (..) هذا مجرّد ترتيب تقني". وبات إنكار التطبيع موضوع الساعة الوطني: انظروا.. هل صافحناهم؟ هل تكلمنا مع مندوبيهم؟ ألم نرفض التوقيع على ورقة واحدة، فوافقوا، وصار الاتفاق نسختين منفصلتين، واحدة لنا والأخرى لإسرائيل؟ ألم نتوقّف عن المضي في المحادثات بعدما رأينا في الجو طائرات تحوّم فوق رؤوسنا؟ ألم يسحبوها بعد احتجاجنا هذا؟ إلخ.
وأظرف إنكار للتطبيع كان إعطاء اسم آخر للعملية برمّتها. "وجدها" أحد أشهر أعداء التطبيع، وشهادته مطلوبة، إذ قال إنها ليست "اتفاقية" إنما "تفاهم". غيّرَ اسمها، وبدّلها بآخر، يقول القاموس العربي إنه أكثر حميمة من "الاتفاق"، يكاد يكون رومنطيقياً. فـ"التفاهم" فيه وئام ووفاق، فيما "الاتفاق" يمكن أن يتم بين متخاصمين ما زالا يكرهان بعضهما، أو أنهما لا يرْتميان بالأحضان عند أول لقاء.
بعد "انتصارات" حقل قانا، ثمّة معزوفة تشتغل على إخراس الأصوات الحذرة أو المستفهمة أو المتسائلة، أو حتى المزايدة
هذا تصرّفٌ بالكلمات ومعانيها يشبه، إلى حدّ بعيد، تلك الممارسة الراسخة في عقول الممانعين إزاء مسائل التطبيع. إنه نوعٌ من العُصاب القهري. وهو، في حالتنا، اضطراب يصيب من يؤكّد على "انتصاراته" ليل نهار. وفي الوقت عينه يخفي قلّة حيلته بتكرار الهواجس والصور ذاتها، قليلة الأهمية في معظم الأحيان، ومن دون أية "استراتيجية"، أو تراكم أو مكاسب غير إعلامية. مثل ربّة منزل "موسْوَسة" تلاحق طوال النهار الغبار، تنسى الطبخ والأولاد، تمْسحه، تكنّسه، تنْفضه، لتعود في اليوم التالي... وهكذا.
هذا ما ينتظرنا في الحقبة الما بعد "انتصارات" حقل قانا. معزوفة تشتغل على إخراس الأصوات الحذرة أو المستفهمة أو المتسائلة، أو حتى المزايدة.. حول طبيعة العلاقات الجديدة بيننا وبين وإسرائيل بعد اتفاقية الترسيم. وخلفها، أو في طليعتها، شبكة إعلامية ذات أجندة "تحرّك" نشاطاً معادياً للتطبيع. وبوادر ذلك قبيل التوقيع جاء على لسان وزير التربية (من حصّة حزب الله)، الذي أطلق تغريدة حول مهرجان الكتاب الفرنسي البيروتي جديرة بمواكب الموتوسيكلات الغازية للعاصمة. قال عن أربعة من كبار الأدباء الفرنسيين المشتركين في هذا المهرجان إنهم "من معْتنقي المشاريع الصهيونية فكراً وممارسة، وداعميها، سواء في أعمالهم الأدبية أو في حياتهم العادية". ما دفع هؤلاء الكتاب إلى الانسحاب من المهرجان استنكاراً لـ"رداءة" الوضع الذي بلغته بيروت، فهلّل الإعلام الممانع لهذا الإنجاز العظيم، وظهر في الأفق ما يشبه الوعد بأن معركة مناهضة التطبيع ستزدهر في الأيام المقبلة.
من اليوم فصاعداً، خذ على حملات أنتي تطبيعية، تضع النظّارات المكبّرة، وتحدّق في الزوايا، تفتش في الملفات، ولن يبخل الواقع بإيجادها. طالما سبق له أن قدّم هدايا كثيرة: مثل منع ملكة جمال لبنان من العودة إلى بلادها لأنها تكلمت مع ملكة جمال إسرائيل في أثناء حفل انتخاب ملكة جمال العالم، أو تحريم ترجمة أدب إسرائيلي إلى العربي، أو العكس، منعاً للإصابة بـ"الدَنس الصهيوني"، أو رفع لاعب كرة إلى رتبة البطل القومي لأنه رفض أن يصافح أو ينظر حتى إلى إسرائيلي مشترك في المباراة.. إلخ.
لم يناقش اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل أحد. لا الوزراء اللبنانيون، ولا النواب ولا المواطنون.. ولا زعماء الأحزاب الحاكمة
سوف تفيض الساحة بحربها ضد التطبيع، وننسى سؤالاً آخر: هل خان حزب الله القضية الفلسطينية عندما "انتصر" بالتوقيع على اتفاقية الترسيم البحري؟ هذا ما توحيه رسالةٌ مفتوحةٌ أرسلها أسامة العلي، أحد القادة الفلسطينيين في المجلس الوطني وفي حركة فتح، إلى رؤساء "الدولة" اللبنانية الثلاثة، وإلى حسن نصر الله. يقول العلي فيها إن دولة إسرائيل أتمّت حدودها الرسمية بموجب قرار التقسيم رقم 181 تاريخ 1947. ونالت بموجبه الاعتراف من الأمم المتحدة. وهذه الحدود مرسومة بدقة. إذن فان إسرائيل المعترف بها دولياً هي حدود 1947، وليس الحدود التي أوجدتها حرب 1967. ويتابع العلي بالسؤال إن كان لبنان يوافق على ترسيم حدوده مع مناطق بحرية احتلتها إسرائيل، ولم تنَل اعترافاً دولياً بها؟ الخلاصة التي ينهي بها رسالته أن اتفاق الترسيم هذا هو "مخالفة للقوانين الدولية"، وأن موقع حقل كاريش يقع في منطقة فلسطينية محتلة حسب الحدود الرسمية والشرعية الوحيدة المعترف بها دولياً.
ثمّة من سوف يسخر من الرسالة ويطلق: "أوووف.. في أي تعقيد يزجّنا هذا الرجل بعدما أنجزنا انتصارنا على إسرائيل". ولكن مهلاً: ألم تقل "المقاومة" إنها لن تلقي سلاحها إلا بعد تحرير القدس، أي على الأقل ما يقوله المسؤول الفلسطيني إنها حدود إسرائيل الشرعية، المعترف بها منذ عام 1947؟ ألم تكونوا تقهقهون في عبّكم عندما نصدقكم بأن سلاحكم أبدي، لأن قضية فلسطين أبدية؟ ألم تخوضوا حروباً هنا وهناك، وتنفخوا عضلاتِكم بوجهنا، من أجل تحرير القدس؟ وها أنتم اليوم لا تعرفون كيف تجدون ورقة تين، تغطي اتفاقية هي، بأقل تقدير، بداية طريق لإلغاء مبرّرات سلاحكم؟