خطر تحالفات واشنطن ضد محور الصين وروسيا وإيران

18 يوليو 2022
+ الخط -

شهدت رئاسة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، تحولاً مفصلياً في الاستراتيجية الحربية لأميركا. حرصت إدارته على تخفيض تكاليف الحرب لزيادة الأرباح، وتجنيب الولايات المتحدة الحروب المباشرة التي لم تفلح فيها منذ حرب فيتنام وحتى حرب العراق، فبلورت بقيادة "البنتاغون" استراتيجية جديدة تقوم على استبدال الانتشار المكثف للقوات الأميركية على أرض المعارك بعقيدة "الأثر الخفيف" التي تسمح لها بالتركيز على القصف الجوي، بينما يتولى وكلاؤها القتال على الأرض، دولاً كانوا أم تنظيمات إرهابية. ارتكزت الاستراتيجية الجديدة على استبدال الدبابات الأميركية بالدرونات، والرفع من حدّة الحرب الاقتصادية، بما في ذلك فرض العقوبات الاقتصادية. وكان لوجود جو بايدن، نائباً للرئيس آنذاك، دور أساس في هذا التوجّه الحربي الذي يعمل اليوم على نقله إلى مستويات أعلى وأخطر.  
يدرك الرئيس المُسنّ أنّ حظوظه في الحصول على ولاية ثانية جدّ ضئيلة، وهذا ما جعل إدارته تتحرّك بسرعة، وتحرّك بيادقها وأحصنتها ووزراءها في كلّ الاتجاهات، مثلما كان نابليون بونابرت يخطّط لمعاركه على رقعة شطرنج. يعمل بايدن، تدريجياً، على تحويل الساحة الدولية إلى رقعة مواجهات ضد محور شرقي ثلاثي، تمثله الصين وروسيا وإيران، باعتباره كتلة مناهضة للغرب. وتعتمد عقيدة بايدن بشأن التحالفات الأمنية والعسكرية الإقليمية على حليف استراتيجي وشركاء متعدّدين، تجمعهم مخاوف ومصالح مشتركة.
يكمن خطر تحالفات إدارة بايدن في أنها تخدم، بالأساس، لوبيات السلاح والطاقة التي تحرّك الاقتصاد الأميركي المبني على الحرب منذ الحرب العالمية الثانية، وتتحكّم بذلك في سياسات البيت الأبيض و"البنتاغون".  في شرق أوروبا، تقود أوكرانيا حرباً أورو-أميركية بالوكالة، وبمساعدة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي أخضعته إدارة بايدن لإرادتها. وبينما تنتعش الصناعات العسكرية والطاقية الأميركية من هذه الحرب، تؤدّي العواصم الأوروبية فاتورة باهظة، منذ قبلت ألمانيا بتعليق مشروع "نورد ستريم 2"، الذي كان سيضاعف إمدادات الغاز الطبيعي الرخيص من روسيا إلى ألمانيا، ويزيد من قوة الدولتين، ويثني الأوروبيين عن شراء الغاز الصخري الأميركي. عارضت واشنطن المشروع بقوة، منذ البداية، واستهدفته بتشريع عقوبات منذ 2017، ثم جاء الغزو الروسي أوكرانيا ليطوي صفحته، على الأقل مؤقتاً.

لم يعتذر بايدن عن الدور المخرّب الذي لعبه في تفكيك الدولة العراقية ومؤسساتها، وتقتيل الشعب وتفقيره

إضافة إلى تحالفها الأوروبي ضد روسيا، دخلت واشنطن في تحالفين ضد الصين، للحد من هيمنتها الاقتصادية والعسكرية في منطقة المحيطين، الهندي والهادئ. عقدت تحالف "أوكوس" AUKUS الأمني مع أستراليا وبريطانيا، وتعهدت واشنطن ولندن بتزويد أستراليا بأسطول غواصاتٍ تعمل بالطاقة النووية، ثم عزّزت هذا التكتّل بتحالف الرباعي "كواد" QUAD مع اليابان والهند وأستراليا. موقع أستراليا الإستراتيجي وتاريخ تحالفها العسكري والاستخباري مع واشنطن، جعل منها حجر الزاوية الذي ترتكز عليه إدارة بايدن في تدبير هذين التحالفين. وبعد أن زعزعت واشنطن استقرار منطقة بحر الصين الجنوبي، بأساطيلها ومدمّراتها وطائراتها التي تخترق فضاء الصين الحيوي، تحوّل بايدن إلى وجهته الثالثة، وربما الأخيرة: الشرق الأوسط، غير آبهٍ بما ارتكبه من جرائم في حقّ شعوبه في الماضي القريب. 
لا بدّ من التذكير بالدور الكارثي الذي لعبه بايدن في تدمير العراق، وصعود نفوذ إيران وزعزعة أمن المنطقة واستقرارها، إذ لم يتوقف دوره عند التصويت لصالح الحرب ضد العراق، بل كان أحد مروّجيها أمام الكاميرا وخلف الكواليس. حين شرعت إدارة جورج بوش الابن في تسويق الحرب ضد العراق في سنة 2002، كان بايدن يرأس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، وحرص وقتها على اختيار 18 شاهداً مؤيداً للحرب، ردّدوا على مسامع أعضاء المجلس أكبر الأكاذيب عن علاقة نظام صدام حسين مع تنظيم القاعدة وامتلاكه أسلحة الدمار الشامل، ودافعوا عن غزو العراق وعن سياسة تغيير النظام فيه.  هكذا نجح بايدن في تمرير قرار مجلس الشيوخ الذي منح إدارة بوش الضوء الأخضر لغزو العراق، بناء على اتهامات باطلة.
لم يعتذر بايدن عن الدور المخرّب الذي لعبه في تفكيك الدولة العراقية ومؤسساتها، وتقتيل الشعب وتفقيره، وزعزعة استقرار المنطقة، وتأجيج الحركات الجهادية، ونشر فوضى شاملة كانت إيران أكبر المستفيدين منها، إلى جانب تركيا وإسرائيل. بل عاد بكلّ غطرسة يخطب فينا عن السلم والاستقرار وحلّ الدولتين الذي ساعدت صهيونيته في تعطيله. عاد بايدن إلى استكمال ما بدأه في إدارة أوباما، وهو اليوم محاطٌ بأكبر صقورها، ممّن بلوروا سياساته العسكرية التي اعتدت على سبع دول عربية ومسلمة. وفي مقدمة هؤلاء وزير الخارجية الحالي، أنتوني بلينكن، الذي كان أحد كبار مساعدي بايدن في غزو العراق، وفي وضع مشروع لتقسيمه على أساس طائفي، قبل أن يشغل منصب نائب وزير الخارجية، ونائباً لمستشار الأمن القومي في إدارة أوباما. ويحطّ بايدن الرحال في الشرق الأوسط ليصطاد عدداً من العصافير بحجرة واحدة يمثّلها مشروع تحالف عسكري عربي- صهيوني.

تسعى واشنطن إلى تثبيت الدور القيادي الذي تريد لإسرائيل أن تلعبه بالنيابة عنها في المنطقة ضد إيران وحلفائها

تعتمد إدارة بايدن في تحالفاتها ضد الصين وروسيا وإيران على حليف استراتيجي رئيس، يشّكل قلب كلّ التكتّل ومحرّكه الأساس. ومثلما تمثل أوكرانيا رأس حربة التحالف الأورو- أميركي ضد روسيا في شرق أوروبا، وتلعب أستراليا الدور نفسه في بحر الصين الجنوبي، فإنّ مشروع تحالف الشرق الأوسط يدور حول حليف واشنطن الدائم: إسرائيل. وتسعى واشنطن إلى تثبيت الدور القيادي الذي تريد لإسرائيل أن تلعبه بالنيابة عنها في المنطقة ضد إيران وحلفائها، وتهدف أيضاً إلى تطوير نظام دفاع جوي تقوده إسرائيل وتشترك فيه، أو بالأحرى تدفع فاتورته وتتحمّل عواقبه السعودية وثماني دول عربية أخرى. الأهم في هذه الخطوة ألّا تترك واشنطن للصين وروسيا فراغاً يسمح لهما بالتمدّد في المنطقة، وبنسج علاقات أقوى مع القوى الإقليمية: إيران والسعودية وتركيا وإسرائيل.  
وتأتي تحرّكات واشنطن في سياق الخطوات الاستراتيجية التي حققتها الصين تجاه إيران والسعودية، وبعض دول مجلس التعاون الخليجي، خصوصاً بعد أن دمجت بكين إيران في شراكة عسكرية واقتصادية طويلة الأمد، وتعهّدت الرياض بتعميق علاقاتها العسكرية والاقتصادية مع الصين. وبما أنّ السعودية وباقي دول الخليج المنتجة للنفط، إضافة إلى العراق، قد اقترنت في سياسات أميركا بصفقات النفط والغاز والسلاح ودعم إسرائيل، فمن الطبيعي أن يحاول بايدن إقناع المجموعة بشراء مزيد من الأسلحة الأميركية والإسرائيلية، وضخّ ما يكفي من النفط والغاز لخفض الأسعار ورفع شعبيته المتدنية قبيل انتخابات التجديد النصفي في الخريف المقبل.

بدأ الرأي العام الدولي يعترف بعنصرية نظام الأبارتهايد الإسرائيلي، ويدعو إلى تفكيكه وعزله

يتعدّى التركيز على السعودية المصالح الاقتصادية والأمنية، ليشمل دفعها نحو التّحالف الأمني والعسكري مع إسرائيل ضد إيران، وهذا أخطر بكثير من تطبيع العلاقات الدبلوماسية. وحتى تتمكّن واشنطن من إرساء تحالف عسكري عربي - صهيوني تقوده إسرائيل في المنطقة، فلا بد من تطويع الرياض، آخر حلقة في مسلسل تحالفات غير طبيعية. في وقتٍ بدأ الرأي العام الدولي يعترف بعنصرية نظام الأبارتهايد الإسرائيلي، ويدعو إلى تفكيكه وعزله، يحاول الرئيس الأميركي الوحيد الذي يتباهى بصهيونيته، بايدن، كسر هذا الزخم عبر تكتلاتٍ تضرّ بالقضية الفلسطينية وبالدول العربية ذاتها، ففي حال شنّ التحالف العربي - الصهيوني هجوماً على إيران، فمن المؤكد أنّ ردّ طهران سيستهدف الدول العربية المجاورة، تفادياً لأيّ مواجهة مع قوة نووية. 
للإبقاء على الأرباح الخيالية التي تجنيها الشركات الأميركية المهيمنة على صناعة الأسلحة والطاقة، تبدو إدارة بايدن مستعدّة لرفع منسوب التصعيد، وإيجاد مزيد من بؤر التوتّر من أوروبا الشرقية إلى بحر الصين الجنوبي، مروراً بالشرق الأوسط، أو وصولاً إليه. ما انكشف من سياساتها العدائية وتحرّكات حلفائها الاستراتيجيين (أوكرانيا، وأستراليا، وإسرائيل)، ينذر بأن ما خفي أعظم وأخطر، خصوصاً بالنسبة للمنطقة العربية، إذ قبلت قيادات استبدادية أن تضع شعوبها تحت رحمة إسرائيل وأميركا، مثلما يستنجد القطيع بالذئاب. 

D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري