خالد خليفة... الرواية عمل شاقّ
مات الروائي السوري خالد خليفة. أعرفه من الحكايات، حكاياته المكتوبة، والفارقة في الرواية السورية بحقّ، وحكايات المحبّين التي لم تتغيّر، حيا وميتا، ولم يزد عليها سوى الحكي بصيغة الماضي مع "أسىً" حقيقي، وحزنٍ عميق. تصوّرت أن خالد عاش سنواته الأخيرة في مصر من كثرة صوره في القاهرة، على مقاهيها، ومع مثقفيها، حالت الظروف، غير مرّة، دون اللقاء، لكن أثر رواياته وروايات محبّيه عنه كان كافيا.
لا أقرأ رواية عربية، الآن، إلا بعد متابعة دقيقة للمكتوب عنها ممّن أثق بأقلامهم، إذ المكتوب بوصفه رواية كثيرٌ جدا، أما الرواية بألف ولام التعريف فأقلّ بكثير، كثيرون يصدُق فيهم وصف كاتب رواية، قليلون جدا جدا يستحقّ لقب "روائي". هكذا كان خالد خليفة. الرواية شعر هذا الزمان، وفنّه الأكثر تعبيرا عنه، والأكثر مشقّة، يحتاج الروائي إلى كل شيء... لغة رشيقة، وقدرات سردية ووصفية ممتعة، ومعارف متنوّعة، بالواقع والتاريخ، وقراءة دقيقة وحذرة لمن سبقوه عربيا وعالميا، وتزداد مسؤولية الروائي العربي، أكثر من غيره، في أنه، إلى جانب ذلك كله، يحتاج، إذا أراد أن يكون روائيا بحقّ، قدراتٍ "أكروباتية" على مراوغة الرقيب، أو دفع أثمان باهظة لقاء الانشغال بقضاياه الحقيقية، ولو لم تكن دينية أو سياسية، فالقضية الفنية وحدها لن تمرّ من دون خسائر فادحة وأثمان.
كانت بداية المعرفة مع رواية "مديح الكراهية". لم أقرأ إلى يومنا ما سبقها، "حارس الخديعة" و"دفاتر القرباط"، كتب كثيرون عن الرواية التي استدعى فيها روائيٌّ سوريٌّ معركة نظام حافظ الأسد مع الإخوان المسلمين في حماة، كان "الموضوع" وحدَه مغريا، وهذا فخّ يقع فيه قرّاء ومبدعون كثيرون على حد سواء، أن يطغى الموضوع على معالجته، الطريق على الطريقة، فتصبح الرواية منشورا سياسيا لا عملا إبداعيا، إلا أن خالد كان حيث يفترض أن يكون "الروائي"، فكانت الرواية/ العلامة التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) عام 2008، وكانت تستحقّ الفوز، وعبّر صاحبها، في نبلٍ نادر، عن سعادته بفوز رواية أحد أساتذة الرواية العربية، بهاء طاهر. لكن "مديح الكراهية" ظلّت جائزة، في ذاتها، للقارئ، ودافعا لمتابعة أعماله القليلة، مثل عمره، والرائعة مثل شخصِه وسيرته.
لم يفارق هاجس الاستبداد خالد خليفة، مثل أي "مثقّف حقيقي" يعيش في بلادنا المنكوبة في هذه الحقبة المريرة. وفي روايته "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة"، يعيد خالد خليفة المشي فوق ألغام الاستبداد السياسي وآثاره على الفرد والمجتمع، ويأخُذنا إلى حقول الخسّ في حلب، يحكي حكايتها، وأساطيرها، من خلال قصّة عائلة حلبية، هجرها الأب مع امرأة أميركية تكبره بثلاثين عاما، لتواجه الأسرة حياة مريرة مليئة بالفقد والهجرات والهزائم الشخصية، قبل العودة من جديد إلى حلب، مركز الحكاية، مكانا وزمانا. وهي الرواية التي نشرها خالد في مصر، ونال عنها جائزة نجيب محفوظ في الرواية، ومعها مكانة متميزة لدى القارئ المصري.
أما "الموت عملٌ شاقّ" (ويا له من عنوان) فهي رواية جيلنا، جيل الربيع العربي، بما تمثله الثورة السورية من رمزيةٍ أكثر اختزالا وتكثيفا لآلامه وهزائمه. لا تتحدّث الرواية عن الثورة، نفسها، بل عن ضحاياها.. قسوة التجربة، ومرارتها، قصة عائلةٍ تحاول النجاة، سواء بالهروب أو الموت، الذي تحوّل بدوره إلى سبيلٍ للخلاص، إلا أن سلطات الاستبداديْن، السياسي والديني، تأبى أن تمنح أسرتنا موتا عاديا، وطبيعيا. يموت الأب، وتعتقل السلطات جثته، وترفض مرورها من الحاجز الأمني، لأن صاحبها مطلوبٌ مخابراتيا، ولا يعني موته نجاته، وتدور الأحداث وسط خرائب الحرب. وفي روايته الأخيرة/ الملحمة "لم يصل عليهم أحد"، يعود خالد إلى جذور المأساة العربية، التي لا تفارقه، همّا فنيا وإنسانيا، مستدعيا نهايات الحقبة العثمانية، في فترة تمتد من القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، لا لمعالجتها، بل لمقاربة واقعنا بها.
ألف رحمة ونور على خالد الرواية العربية.