خالد البسّام في القدس
في صيف عام 1964، قبل ما بتنا نعرفها بنكسة يونيو/ حزيران 1967، كان الفتى البحريني خالد البسّام مع والديه وعائلته في زيارةٍ إلى دمشق. وهم يمشون في أحد الطرق الرئيسية في المدينة، سمع الأب سائق حافلة وهو ينادي: "القدس... القدس". بين مصدّقٍ وغير مصدّق، اقترب الأب من السائق يسأله: "هل تستطيع حقّاً أن تأخذنا إلى القدس"؟ والمؤكّد أنّ لسان حال الأب كان حينها يقول: "مَن مِنّا لا يتمنّى زيارة القدس والصلاة في المسجد الأقصى؟"، خصوصاً مع روح التضامن مع فلسطين وشعبها بعد نكبة 1948.
أجاب السائق بـ"نعم، علينا أن نتوجّه إلى عمّان أولاً، ونقضي فيها ليلة، وفي الصباح نتوجّه إلى القدس". وهذا ما كان. في الصباح الباكر، أخذتهم سيارة السائق السوري، وبعد طريق طويل وشاقّ وصلوا إلى عمّان ليلاً. وفي الصباح التالي، توجّهوا إلى القدس. لم يستطع والد خالد إخفاء فرحه وسروره، وهو يسمع السائق يكرّر عليه: "وصلنا إلى القدس يا حاج.. هذه هي القدس"، وبعد جولةٍ سريعة في المدينة بالسيارة، قرّرت العائلة البقاء في المسجد الأقصى بعض الوقت والصلاة فيه.
سيكبر خالد البسّام ويغدو كاتباً في الصحافة البحرينية والخليجية، وباحثاً في تاريخ المنطقة، الذي أصدر فيه عشرات الكتب، جمعت بين التأليف والترجمة من الإنكليزية، رغم عمره القصير، حيث رحل عن دنيانا باكراً في العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2015، وستبقى ذكرى رؤيته القدس وهو فتى صغير راسخةً في ذاكرته، حين دخل، هو ووالدُه، المسجد في "جوّ مشبع بالقدسية والمهابة والطهارة". وكان المسجد، حسب وصف خالد، "مملوءاً بالفخامة والتألق الروحي والجمال المعماري". بعد ذلك، توجهت العائلة إلى حدود القدس، وكان السائق يشير إلى ما وراءها ويقول: "هناك اليهود... يا حاج... هناك نصف فلسطين الثاني."
بقيت صورة القدس "مسوّرةً بسياج الحديد" ماثلة في ذهن خالد حين عادت السيارة بهم مسرعة إلى دمشق. ومع صورة القدس بقي في قلبه حزن، لم يغادر سريعاً، "بل ظلّ كأنه ينبئنا بأن أحزاناً أخرى على فلسطين تنتظرنا وتنتظر الجميع."
بهذه الحكاية التي لم تستغرق سوى ساعات من يومٍ واحد، يستهلّ خالد البسّام كتابه: "كلّنا فداكِ – البحرين والقضية الفلسطينية (1917 – 1948)، الذي كان لي شرف تقديمه في محاضرة نظمّها المنبر التقدّمي في البحرين قبل أسبوعين. وإذا كان خالد، رحمه الله، محظوظاً، بين أبناء جيله، أنه أتيحت له رؤية القدس وهو طفل، ولو ساعات، لكنه يؤكّد، في مفتتح الكتاب، أنّ فلسطين هي "جرحنا الذي لا يندمل ووجعنا الذي لا ينتهي."
عنوان كتاب البسّام: "كلّنا فداكِ" مأخوذٌ من هتافٍ كان يطلق في مسيرات بشوارع عاصمة البحرين، المنامة، في الفترة السابقة للنكبة وقيام دولة الاحتلال، يقول: "يا فلسطين لا تخافي/ كلّنا اليوم فداكِ". ولم تكن غاية المؤلف إبراز ما نالته قضية فلسطين من تضامن معها لدى شعب البحرين بعد نكبة عام 1948، لأن هذا بات معروفاً وكُتب عنه الكثير، وتشهد عليه، أيضاً، صحافة البحرين في بداية عقد الخمسينيات من القرن العشرين، وإنما كانت غايتُه تعريف القرّاء بتجليات التفاعل الشعبي البحريني مع القضية الفلسطينية منذ بداياتها، في الفترة السابقة للنكبة بنحو ثلاثة عقود، والذي أخذ صورة جمع تبرّعات لإغاثة الفلسطينيين، والتجاوب مع النداءات التي توجّهها القيادات الفلسطينية، يومها، للشعوب العربية لنصرة فلسطين وصوْن المقدّسات الإسلامية فيها، ويلفتنا الكاتب إلى أن هذا التضامن لم يقتصر على الرجال، وإنما شاركت فيه النساء البحرينيات أيضاً.
ومن أمثلة ذلك أن المجلس الشرعي الإسلامي في فلسطين نشر في عام 1924 بياناً إلى عموم العرب والمسلمين، دعاهم فيه الى دعم مشاريع الترميم الكبيرة في بنيان الحرم القدسي المشتمل على المسجد الأقصى وقبّة الصخرة والمباني الأثرية الإسلامية المحيطة بالمكان، فجرت في البحرين، يومها، حملة تبرّعات كبيرة، وجدها البحرينيون فرصة لإظهار تعاطفهم مع فلسطين عامّة، وتنجح الحملة في الحصول على مبلغ مالي ضخم يفوق ما قدّره منظمو الحملات، فاحتلت البحرين، رغم صغر مساحتها وقلة عدد سكّانها وشحّ إمكاناتهم، المركز الخامس في مبلغ التبرّعات بعد فلسطين، الهند، الحجاز، العراق، حيث بلغت تبرّعات البحرينيين 2681 جنيهاً مصرياً متقدّمة على دول عربية كبيرة، وزار وفد من النادي الأدبي فلسطين، وأوصل المبلغ إلى المجلس الأعلى الإسلامي بالقدس.