حين مرّ أعرابي بامرأةٍ تقرأ

04 مارس 2022

(جان هونوري فراغونارد)

+ الخط -

كلّما كنتُ أمام رجل، وبرفقة رجلٍ آخر، أب أو أخ أو زوج أو صديق، كان الرّجل في مقابلي، موظّفاً في مصلحة أو بائعاً في محل، يُوجّه الخطاب للرّجل المرافق لي، مع أنّ لا ناقة له ولا جمل في الموضوع؛ فأنا صاحبة المصلحة والقضيّة. لكن الآخر يرى أنّه إذا حضر الماء بطُل التيمّم، والحديث يكون مع الرّجال لا مع النساء، فـ"سوق النساء خاو"، و"صوت حيّةٍ ولا صوت بنيّة".. لهذا يحاول إلغاء المرأة وإخراسها، حين يكون بجانبها رجل. لعله يفعل تحرّجاً من الرجل الرفيق، الذي قد يشعر بالإهمال، فيقول له: حدّثني أنا، واترك عنك المرأة المرافقة لي.

مرّاتٍ، اضطُررت للعكس، لأن أقول له حدّثني أنا، أنا المعنية بالأمر وأنا صاحبة الموضوع، حتى لو كان رفيقي والدي. لكن ذلك لا يُغيّر من عادة "سوق الرّجال"، حين تدخلُه المرأة عن حق، حتى وإن أطالت المقام وصارت صاحبة شأنٍ فيه، مثل الرّجل. وترى النظرة الذّكورية ذكاء المرأة، أو محاولتها الحصول على مصادر تعزّز وعيها، تهديدا للسلم الاجتماعي الذي يقوم على سيطرة الرجل، لا على علاقةٍ ندّيةٍ تكاملية.

يحضُرني مثال الأعرابي الذي مرّ بامرأة تقرأ، فقال: "الأفعى تزداد سمّا". هذا المثال نجده في أول سطرٍ من مقدمة سعيد بنكراد لكتاب "الكلمات والنساء" لمارينا ياغيلو، العميق الطرح عن تمثّلات الاستلاب الذكوري للمرأة، من خلال لغة الخطاب. وهو مرجعٌ أساسيٌّ للباحثين في تحليل أنماط الخطابات عن المرأة. عبر المثال، يقدّم لنا بنكراد باختصار التصوّر الذي ربط الكلمات بالنساء في تاريخنا، بما أن الكتاب يركّز على علاقة النساء بالكلمات، في الثقافات الأخرى، في مقاربة مهمة جدّاً.

في هذا السّياق، يمكن الاستعانة بما كتبته سيمون دوبوفوار عن التلقي الذي تركه كتابها الأشهر "الجنس الثاني"، "توقّف أحدهم، وهو جامعي تقدّمي، عن قراءة كتابي، وقذف به إلى الجانب الآخر من الغرفة. واتهمني كامو، بعباراتٍ شرسة، بأنني هزّأت الذكر الفرنسي". هو الذي اعترف لها مرّة "بأنه لا يحتمل أن تحكم عليه أو تقوّمه امرأة". هي صورةٌ حداثيةٌ لتعبير "سوق النساء" التقليدي، الذي يعني أن كل ما يصدُر عن النّساء عديم الجدوى، لأنه يكتفي بالقول لا بالفعل، والمقصود به التقليل من قدرها، لكن الواقع أنه يُدين المجتمع، فهو بذلك يعترف بأنه لا يسمح لها بوجودٍ حقيقي، يمنحها القدرة على تحويل قولها إلى عمل. ويصِمُها بالثرثرة التي ليست سلبيةً في حد ذاتها، بل هي كذلك بحكم الأسباب الداعية إليها.

بالنّظر إلى السّياق الاجتماعي لها، تصبح للثرثرة وظائف نفسية لقتل الوقت والتنفيس في غياب طرق أخرى للتّسلية، أو مهام حقيقية تُشعِر بعض النساء بجدوى وجودهن. ولها أيضاً وظيفة اجتماعية، تمكّن المرأة من نسج علاقاتٍ اجتماعية، في الإطار الضيّق الذي يسمح به المجتمع. غالباً ما تكون النساء اللّواتي يُفرض عليهن البقاء في البيت الأكثر ممارسة للثرثرة، الأخريات اللواتي يعملن خارج البيت تقلّ لديهن الحاجة إليها بكثير، ما عدا القادمات منهن من طرق التربية التقليدية؛ فالمرأة التي تجلس أمها في البيت تتعلم الثرثرة جزءا أساسيا من يومها. ولأنها لم تتمكّن من خلق شخصية خارج محور العائلة، لن تتغير عاداتها كثيرا. بالإضافة إلى أنها تميل إلى إقامة صداقات مع نساء أخريات من الاهتمامات نفسها، فتكون الثرثرة حاجز أمان، يُشعرهن بالانتماء، فيمارسن هواية الثرثرة التي تحمل أيضا طابعاً حميمياً، يذكّرهن بالوقت الذي كانت الأم تثرثر فيه مع الجارات ونساء العائلة، وهن طفلات.

مثل شهرزاد، قد يظن المرء أن ثرثرتها وحكاياتها التي لا تنتهي خارجة عن سيطرتها، فهي شيء فطري فيها. لكن ما يحدث هو العكس؛ فحين تقرّر المرأة قطع خيط الكلام مثلما فعلت شهرزاد أخيراً، يكون ذلك مدروساً، حيث يصبح الصّمت نوعاً من الاحتجاج وتسجيل الموقف. وبهذا، لن تختلف القارئة عنها، إلّا بعمق ما تفكّر وتحكي عنه. الباقي موجود منذ الأزل في كل إنسان، والفرق في طُرق التّصريف. وتبقى علاقة المرأة بالكلمات أعمق مما يرى النّاظر من الخارج، فقد تراها سلاحاً في يدها، أو منبع عطائها، حسب موقفك منها.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج