حين تقول صور أطفال غزّة كل شيء للعالم
الإنسانية في أسوأ مراحلها التاريخية، حين لا تسود غزّة، حين لا يكون الأطفال في مكانهم كليّا، وفي أمان الصورة. آلاف الصور تبث يوميا، آتية من فلسطين، ومن مدن العالم أيضا هذه المرّة، من واشنطن ولندن وباريس ومونتريال وميلانو وكوبنهاغن. وحدها الصور تقول كل شيء. يرى العالم أطفال غزّة أمامه ظاهرين من تحت الركام والمباني المدمّرة وأبواب المستشفيات. لكل صورة لطفل فلسطيني كيانها. من رأى وجه أحدهم عرف الشخصية الفلسطينية كلها، الأمر الذي لا يفهمه العالم، وهو لا يختبر الموت، وما ينبئ به ويعانيه المجتمع الفلسطيني. لا تختلف ألوان البشرة والتراب والدماء في جوهر القضية التي تعرّي وهم الوجود الإسرائيلي وشروطه في القتل والعنف والحقد والغضب. الصور تولد الرمزيات بألوان حقيقية، وتقول إن أحدا لم يستطع أن يعرض شكلا آخر لما تمثله "الأيقونة" الفلسطينية، حين تواجه احتلالا من طبيعةٍ تعكس كل هذا الشرّ، ومن دون محاسبةٍ تُذكر.
لا يرى العالم ولا يسمع ولا يحسّ مع الأطفال والنساء، والذين يؤسّسون لمواجهة عالم حربي قديم. يقول أحد المسعفين، سامر الطرزي، من غزّة "لقد جمعنا جثث أطفال عديدين في عديد من أجزاء الجسم، إنه مشهد سيبقى في ذهني لو عشت ألف عام". لا يتوقف تعداد أرقام الشهداء، ويطاول الناس الذين بحثوا عن الأمان. لكن وكالة غوث اللاجئين (أونروا) تقول "لا توجد أماكن آمنة في غزّة. كأن الأمر أشبه بيوم القيامة. صرخات عالية، مئات الجثث والأشلاء البشرية المتناثرة". أطفال يعيشون حربهم الثالثة في أقلّ من ستّ سنوات. أزيد من مليوني رجل وامرأة وطفل محاصرون في سجن مفتوح أكثر من 13 عاما. تحدّد قوانين النزاعات المسلحة الدولية المعايير الدنيا لسلوك جميع الأطراف، بهدف واحد وثابت ودائم، الحدّ من المعاناة الإنسانية الناجمة عن الصراع. وتتعلق اتفاقية جنيف الرابعة تحديدا بحماية المدنيين في أوقات الحرب. ويأتي هذا اعترافا بأن المدنيين وأولئك الذين لا يشاركون بشكل ناشط في القتال، رجالا ونساء وأطفالا، لا يتحمّلون أي مسؤولية عن سلوك أطراف مسلحة، ويجب عدم استهدافهم انتقاميا، ومنحهم حقّ الوصول إلى مساعدة.
يأتي قصف قطاع غزّة اختبارا لجزئية الصورة التي كانت تغطّي فيها وسائل الإعلام أخبار وفيات الإسرائيليين، وتتجاهل الوفيات الفلسطينية
تقصف إسرائيل آمال البقاء على الحياة مرّة تلو أخرى. قتل يومي وصفه وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث، بأنه مثل "شبح الموت الذي يخيّم في كل المكان"، وأدّى النزوح إلى الجنوب إلى زيادة العبء على مدارس أونروا وغيرها من المرافق غير المجهّزة للتعامل مع التدفق الهائل من الناس. لم يكن لدى عديد من الغزّيين من المتاع قبل الحرب سوى الأطعمة المعلبة والمخزون المحدود من إمدادات الماء والشفاء. بعد الحرب، بالكاد يتم توزيع الخبز وبعض الحبوب. ينام الأطفال خائفين، يشربون الماء المالحة. "لم نتمكّن من جلب الخبز"، كما تقول جوليت توما من "أونروا" التي أوضحت أيضا أن الموظفين سيضطرّون إلى تقنيين استهلاكهم للحصول على ليتر مياه واحد لكل الاستخدامات، في حين تُقصف خزّانات المياه.
لم يعد في المشرحة في مستشفى الأقصى مكانٌ للأشخاص الذين استشهدوا. وضع الموظفون 20 جثة في عربة الآيس كريم التي لا تزال مزيّنة بصور الأطفال السعداء. مع ذلك، وصلت صورة البأس الفلسطيني الجوهري والمصوّر بمعاني إرادته ومطلوباته على أرضه/ ملكوته. هي البيان والكلام، والمعلومات عن الغرض من قتل الأطفال والنساء، وفي رؤية إرهاب الدولة / إسرائيل. وجوه الأطفال المشوّهة الدميّة ترسم توصيفا لعدوانيةٍ لا تتغيّر. ما تغيّر أن الإعلام الغربي، بعد "فجيعته" الأولية باسرائيل، بدأ يتذكّر الاحتلال في الضفة الغربية وغزّة، وكيف كان الجنود الإسرائيليون يقتحمون البلدات ويختطفون المواطنين ويضربونهم ويتحكمون بهم في حياتهم وتنقّلاتهم، ويهدمون أسبوعيا منازلهم، ويدمّرون محاصيلهم، ويصادرون أراضيهم.
يأتي قصف قطاع غزّة اختبارا لجزئية الصورة التي كانت تغطّي فيها وسائل الإعلام أخبار وفيات الإسرائيليين، وتتجاهل الوفيات الفلسطينية التي تحدُث بوتيرة أكبر بكثير، ولا تذكر التقارير من تقتلهم الغارات الإسرائيلية، حين التركيز على الهجمات الصاروخية من غزّة. لماذا فعلت "حماس" ذلك؟ لماذ أعادت صورة شخصية فلسطين الجديدة كما هي إلى الواجهة، وتحديدها وتسميتها حتى بالموت وانفعاليّته؟ شعب محدّد بألوانه، تصير صور الموت عنده متجانسة، كما يجري إدراك أنها حياة ممتدّة خلف الصورة، فيعود ويسأل العالم: كيف هي الحياة في غزّة وفي الضفة الغربية؟
الصورة سلاح المعركة، الوسيلة الفعّالة لإدانة العالم والضمير الإنساني المشوّه والمتسخ، حين يخفي ارتباكه وانزعاجه مما تفعله إسرائيل
منذ حرب الأيام الستة في 1967 تمّ هدم 116 ألف منزل في الضفة والقطاع، 211 مدرسة، 67 مستشفى، علاوة على ما هدمته الطائرات في غزّة أخيرا. لا يشبع الخزّاف الإسرائيلي من نحت الموت بأجساد الفلسطينيين، فتستدير وجوه الأطفال أمام الكاميرات. لماذا قامت "حماس" بهجومها الكبير؟ لأن الناس تعرّضت للضرب والاختطاف والإصابة والترهيب على مدى عقود، لأن الناس اقتلعت من مطارحها، لأن الناس على أراضيهم يعارضون مصادرة ممتلكاتهم وحيواتهم من دولةٍ تدمّر مزارعهم وسبل عيشهم، وتقتلع الآلاف من أشجار الزيتون، وتقودهم إلى التهجير عاما بعد عام، وحربا بعد حرب، أمام أعين العالم، ولا يفعلون شيئا، فكانت الصورة سلاح المعركة، الوسيلة الفعّالة لإدانة العالم والضمير الإنساني المشوّه والمتسخ، حين يخفي ارتباكه وانزعاجه مما تفعله إسرائيل، فينفعل الشباب في عواصم العالم في تظاهراتٍ حاشدة.
هذا القرن هو قرن الصورة، فلسطيني بامتياز. لا قرن الأديان ولا الأفكار ولا الأيديولوجيات ولا النسق السياسي، سيما العربي منه، حيث يعيش حالة من التواطؤ والتخلي عن رهافة الإحساس، وصنو مشوه "للنفايات السياسية" في المواقف والمشاعر المتحجّرة أمام أعداد القتلى والجرحى والمصابين. في المقابل، تضغط الأمم المتحدة والعالم على إسرائيل للموافقة على فتح ممرّات آمنة وتوصيل المساعدات.
غزّة صورة الضحايا الأبديين لظلم التاريخ في الشرق الأوسط، في حربٍ لا تعرف الحدود (يهدّد فيها وزير إسرائيلي باستخدام النووي ضد شعب نصفه من الأطفال). في الصورة، صار العالم (حتى من أصدقاء إسرائيل) يعاني أضرارا نفسية وتدهورا في السلوكيات والأعصاب. لا يمكن للعالم أن يبغض أطفالا مضرّجين بدمائهم، أو أشلاء لا تعرف فرارا من انتقام، ومن العنف والنزوح والتشريد والصدمات والحزن، "وصمة عار على ضميرنا الجماعي (أنطونيو غوتيريس). ... كيف يمكن بناء سلام واستقرار بوجود هذا الكمّ من الضحايا الأبديين، عندما تأتي الصورة من عواصمم العالم لها سيميائيتها الخاصة، حيث تقف بوجه التاريخ المفتّت/ والانحطاط طويل الأمد لإسرائيل.