حين تبوح القدس بأسرارها

03 مايو 2022

(جميل ملاعب)

+ الخط -

تفتح مدينة القدس، في هذه الآونة، صفحة مجيدة من تاريخٍ حافلٍ بالأمجاد السماوية والأرضية، وتبعث مقاومتها في أعطافنا شعوراً دافقاً بالاعتزاز والثقة والجدارة بنيل الحق في الحرية والاستقلال من ربقة الاحتلال، الأمر الذي يطرح السؤال البديهي عن ماهية هذا السلاح، الذي تقاتل به المدينة المحاصرة بالمستوطنات والغزاة، وتراكم من خلاله نجاحاتٍ عزّ نظيرها لدى شقيقاتها في الديار ذاتها، فأين مكمن هذا الإعجاز؟ ما سر هذه الروافع الكفاحية التي تستنهض الهمم وتُفشل الاعتداءات كل مرة؟ هل يعود ذلك إلى احتضانها قوماً جبارين مرابطين في أكنافها جيلاً بعد جيل؟ ومن ثمّة ما الذي يمنح هذه المدينة الخالدة كل هذا الاستثناء؟
ربما في ذلك شيء من الحقيقة الملموسة، إلا أن هناك قسطاً أكبر من الحقائق غير الكامنة عميقا في أعطاف هذه المدينة الباسلة، أولها تلك الروح التي لم تنكسر على طول المدى، وذلك السحر الخاص ببيت المقدس، وفق ما تنطق به شواهد دالّة على جاذبية أولى قبلة للمسلمين، وجزالة حضورها الدائم في الوجدان والضمائر، وفوق ذلك هناك ما يعرفه المقدسيون ولا يشيرون إليه، كونه تحصيل حاصل، ونعني به رائحة القدس المنبعثة من حجارة أسوارها وأزقة أسواقها العتيقة، وهي رائحة تعبق في الصدور، وتعزّز المضاء في النفوس.
كنتُ كلما تحدّثتُ عن رائحة القدس المميزة أمام أناس لم يمرّوا مثلي بتجربة العيش في القدس عاماً على الأقل، كانوا يبتسمون بين مصدّق ومكذّب، معتقدين أن شدّة الحنين إلى هذه المدينة الفريدة في كل شيء، وفداحة الحسّ بالفقد والحرمان، هما اللذان أوجدا لديّ مثل هذا الشعور الغامض. ولذلك كنت أمنح محاوريّ فضيلة الشك بصحة هذا الحديث الوجداني، الذي تجدّدت مناسبته اليوم، إلى أن يصادق على صوابه مقدسي في ديار الشتات، يتطوّع لتبيان مصدر هذه الرائحة الآتية من البخور أو الزيت أو من سوق العطارين وغيره من الأسواق.
أما عن سحر القدس فحدّث ولا حرج، حدّث عن المساجد والكنائس والقباب والأسوار، عن التاريخ الذي مشى في شوارعها مختالاً غير مرّة واحدة، عن مكانتها الحضارية الباذخة، عن مركزيتها في الوجدان العربي والفلسطيني، عن قداستها لمئات الملايين من المسلمين والمسيحيين، عن قربها من باب السماء وعن المسرى والبُراق، وحدّث من غير مللٍ عن الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة، عن طريق الجلجلة، عن العهدة العمرية، وصلاح الدين، ولا تنسى التطرّق إلى حاضرها، عاصمة روحية سياسية ثقافية اقتصادية للفلسطينيين.
سحر القدس ممتدٌّ وواسعٌ في طول البلاد الفلسطينية وعرضها، يملأ فضاءها، ويفيض عنها إلى الجغرافيا الواصلة من إندونيسيا إلى بلاد شنقيط، حتى أن هذا السحر الباتع يبدو أخّاذاً أكثر لدى الذين لا يعرفون القدس إلا من قبة الصخرة المذهّبة، بمن في ذلك البعيدون عن ضفاف الأرض التي باركها الله وبارك من حولها. وفي روايات بعض المسافرين، كثيراً ما كان يتبرّك المسلمون في أواسط آسيا من القادم إلى ديارهم من القدس، يلمسون ثيابه أو يمسحون على جبينه، تقرّباً إلى الله، عبر من سار يوماً على ثراها المقدس، وصلّى فيها ركعتين.
إذا كان في هذا الطرح شكٌّ عن سحر القدس، أو كان فيه ما يبعث على الأخذ والرد، فإن ما تشهده بلاد العرب والمسلمين هذه الأيام من مظاهر غضب والتياع، إزاء الاعتداءات المتواصلة على "الأقصى" وباب العامود والشيخ جرّاح وسلوان، هو الدليل بعينه على وجود هذا السحر، وعلى تربّعه بالطول والعرض في قلوب الملايين، الذين لم تحرّك أفئدتهم، بهذا العمق والاتساع، أي قضية أخرى عادلة ومحقّة من قضايا هذه الأمة، على النحو الذي حرّكته القدس في كل مرّة، وألهبت فيه العواطف في كل مكان.
وليس من شك في أن مبعث هذا السحر الخاص بمدينة القدس، كامن في القداسة الدينية بشكل رئيس، كونها تضم ثالث الحرمين الشريفين، وإليها تُشد الرحال، إلا أن هناك أيضاً مكامن أخرى تعزّز المقدس وتبني ضفافه، من بينها العاطفة الوطنية والذاكرة القومية، فضلاً عن الرمزية التاريخية لهذه المدينة التي دحرت كل الغزاة، بمن فيهم الصليبيون، الأمر الذي يُجدّد الثقة ويشيع في صدورنا قدراً كبيراً من الاطمئنان، أن القدس في طريقها إلى الحرية مهما طال الزمن، وأن الاحتلال القائم إلى زوال، رغم كل ما يتلبد في الآفاق من معادلاتٍ دوليةٍ مختلّة، ومظاهر ذاتية مؤسفة، وعوامل خارجية مؤقتة، لا تسندها سوى قوة الحديد والنار.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي