حمدوك وقد تحرّر
بدا رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، في نسخته الجديدة، وقد تحرّر من قيود كثيرة. ظهر ذلك بوضوح في أول حوار تلفزيوني، بعد الاتفاق الذي وقعه مع رئيس مجلس السيادة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، منهياً أزمة سياسية خطيرة. تحدّث رئيس الوزراء العائد، بلا حاجة لمقدّمات طويلة، يرضي بها آخرين، ولا لإيماءاتٍ أو إيحاءاتٍ ينقل عبرها رأياً ناقصاً، فدعا حلفاءه السابقين في قوى إعلان الحرية والتغيير، وبلا مواربة، لأن يعدّوا أنفسهم للانتخابات التي كادت أن تصبح في فترة ما قبل الانقلاب نسياً منسياً، ترد في ثنايا الأخبار لماماً. كان حمدوك، في نسخته الأولى، مكبّلاً بقيود قوى الحرية والتغيير التي ظلت تذكّره تلميحاً أو تصريحاً بجميلها عليه، بعد أن حملته إلى منصب رئيس الوزراء، فأصبح رئيس الوزراء محكوما بهوى قوى إعلان الحرية والتغيير التي لم تكن تطيق للانتخابات ذكراً، على الرغم من أنّ الانتخابات أهم مهام فترة الانتقال. وإذا اضطر رئيس الوزراء لذكر الانتخابات، ليدفع عن نفسه الحرج، كان عليه أن يمرّ عليها سريعاً، وكأنّها من نوافل الفترة الانتقالية، شريطة أن يؤدّي الفروض التي أملتها قوى الحرية والتغيير، وأهمها الثناء على لجنة إزالة التمكين والدعوة إلى إعادة هيكلة الجيش، ورفض شركات القوات المسلحة، وأن يعرّج على المحكمة الجنائية الدولية، وقد يطلب من حلفائه تحية موكب محتج على إحالة ضابط (ثائر) إلى المعاش.
قال حمدوك إنّ الحكومة التي ينوي تشكيلها ستكون ذات مهام محدودة جداً، في مقدمتها إجراء الانتخابات
أما وقد تحرّر، فقد قال عبد الله حمدوك إنّه قد وقّع على الاتفاق مع رئيس مجلس السيادة حرصاً على استكمال التحول الديمقراطي. وضرب موعداً للانتخابات في يوليو/ تموز 2023 أو قبل ذلك، مذكّراً بالضرورات المنسية مثل مفوضية الانتخابات والقانون. وصارح أحزاب قوى الحرية والتغيير بحقيقة مفارقتها الحكم، ناصحاً إياها بأن تعمل كغيرها من الأحزاب على الاتصال بجماهيرها، وطرح برامجها الانتخابية، استعداداً للاستحقاق الانتخابي الذي بات وشيكاً. وبذلك أعاد حمدوك الانتخابات إلى الواجهة، وصدم قوى الحرية والتغيير التي استمرأت الاسترخاء على فترة انتقالية بلا سقف زمني. وكمن أراد التعويض، أعاد الرجل، أكثر من مرة، التذكير بالانتخابات، إذ ذكر أيضاً أنّ أجهزة الحكم الانتقالية لا تملك تفويضاً شعبياً، وأن الحكومة التي ينوي تشكيلها ستكون ذات مهام محدودة جداً، في مقدمتها إجراء الانتخابات لإكمال الاستحقاق الديمقراطي.
يقود الحديث عن الاستحقاق الديمقراطي الذي عاد إلى الواجهة في السودان، بعدما تحرّر رئيس الوزراء من قيود حلفاء الأمس، إلى تناول ذريعة عجيبة ظلت تتردّد عند قوى الحرية والتغيير، هي أنّ الانتخابات سوف تأتي بحزب المؤتمر الوطني حاكماً. وقد أخرجوا هذه الذريعة بعد زمان من التراخي في الإعداد للانتخابات، علها تكون عذراً مقبولاً، لكنها أوقعت قوى الحرية والتغيير في تناقضات عديدة، لأن حزب المؤتمر الوطني الذي سقط بثورة شعبية لا يمكن أن يعود إلى الحكم بتفويض شعبي. وعليه، لا يبقى لقوى الحرية والتغيير إلا الاعتراف بأنها لا تملك بين هذا الطوفان البشري الذي أسقط "المؤتمر الوطني" شعبية تؤهلها إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع. لذلك تبحث في كل مرة عن ذريعة تؤجّل بها الانتخابات.
يمر السودان بفترة انتقالية جديدة. وعلى الرغم من تشابه هذه الفترة مع سابقاتها، فإنّ الفترات السابقة حفظت للتحوّل الديمقراطي الأولوية
وثمّة ظاهرة سودانية ارتبطت بفترات الانتقال، تحميل الفترات الانتقالية معالجة الملفات الشائكة والمعقدة، استغلالاً لطبيعة الانتقال. تلجأ أحزاب كثيرة لهذه "الحيلة" إما لإعفاء الحكومة المنتخبة من حرج سياسي قد يصحب معالجة الملفات الشائكة، أو خوفاً من معالجة الحكومة المنتخبة، الملف المعني بطريقةٍ لا تروق للمسيطرين على فترة الانتقال. عايش السودان هذه الحالة خلال حكومة حمدوك السابقة، وذلك بالضغط على الحكومة الانتقالية للإسراع بانجاز بعض المهام المعقدة، مثل إعادة هيكلة الجيش بفهمٍ تمليه قوى الحرية والتغيير، وبطريقةٍ لا يريدها العسكريون المعنيون دون غيرهم بالشأن العسكري، أو الإسراع بتسليم الرئيس السابق، عمر البشير، للمحكمة الجنائية. وسبق أن عايش السودان هذه الحالة بطريقةٍ مختلفة، خلال الفترة الانتقالية التي تلت انتفاضة إبريل التي أطاحت حكم الرئيس نميري. كانت أبرز القضايا حينها هي ما عرفت بقوانين سبتمبر التي سنّها نميري في أواخر عهده، وسماها القوانين الإسلامية، ليتدثّر حكمه الدكتاتوري بقداسةٍ قد تحصنه. ووجهت تلك القوانين برفض من أحزاب المعارضة، خصوصاً وقد صاحبت تطبيقها مظالم جعلت منها قوانين سيئة السمعة. ومع ذلك، تمنت الأحزاب على حكومة انتفاضة أبريل الانتقالية أن تضطلع بمهمة إلغاء تلك القوانين، على الرغم من أنّ إرجاء البتّ فيها لحكومة منتخبة كان أقرب إلى المنطق الديمقراطي، لكنّ جل الأحزاب كانت تخشى جدال علاقة الدين بالدولة. ولما جاءت الحكومة المنتخبة لم تلغ تلك القوانين، على الرغم من أنّ رئيس الحكومة، الصادق المهدي قد وصف تلك القوانين، عندما كان معارضاً، بأنّها لا تساوي الحبر الذي كتبت به. ثم ألقت الأحزاب، حاكمة ومعارضة، مسؤولية الإبقاء على تلك القوانين على الحكومة الانتقالية، وخصًت المشير سوار الذهب بهجوم خاص، لعدم استغلاله الطبيعة الثورية للفترة الانتقالية في إلغاء تلك القوانين، فأضاع فرصة ذهبية كانت لتكفي أحزاب الفترة الديمقراطية مشقّة الجدال والنقاش.
وها هو السودان يمر بفترة انتقالية جديدة. وعلى الرغم من تشابه هذه الفترة مع سابقاتها في استغلال أحزاب كثيرة لطبيعة الانتقال لتمرير أجندة حزبية، فإنّ الفترات السابقة حفظت للتحوّل الديمقراطي الأولوية. وتراجع التحوّل الديمقراطي خلال هذه الفترة إلى درجة أدنى لتحتل المراتب الأولى مهام فرعية. وما كان ليتم تصحيح هذا الوضع، لولا أن رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، قد تحرّر من سطوة قوى الحرية والتغيير، ليولي الاهتمام الأكبر للمهمة الأهم في فترة الانتقال، أي الإعداد للانتخابات بغية إكمال الاستحقاق الديمقراطي.