حماس وفلسطين بعد اغتيال هنيّة
لاغتيال إسماعيل هنيّة، في طهران، عدة أبعاد، بل ربما عديد من الأبعاد، الإقليمية والدولية، أولها الوقع العاطفي والشعوري لدى الشعب الفلسطيني ومؤيدي المقاومة عموماً، ولعل الهدف النفسي هو أول أهداف الاغتيال الإسرائيلي له، وذلك في المدى القريب، من دون أن يقلل هذا من جوانب، وتداعيات في المدى الأبعد، تتعلق بالبعد التنظيمي داخل حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وبالتالي فلسطينياً وعربيّاً، خصوصاً أن لمكان الاغتيال وظروفه دلالات بالغة. والأسئلة التي تتعلق بالاغتيال تتضمّن، أولا الأثر التنظيمي العاجل على حركة حماس، ثانياً، المعنى بالنسبة للحرب في قطاع غزّة، ثالثاً واقع "محور المقاومة"، رابعاً، مستقبل القضية الفلسطينية والموقف العربي. وفي البعد التنظيمي للاغتيال، يجب رؤية ذلك من زاويتين: الأولى، طبيعة القيادة السياسية في "حماس" والقدرة على التجدد، ومن زاوية ثانية أن الاغتيال حلقة من سلسلة متلاحقة لها أثرها العميق.
إسماعيل هنية الذي فقد في هذه الحرب ثلاثة من أبنائه وأخته وعديدين من أحفاده وعائلته، قتلوا في قطاع غزّة، هو الرئيس الحالي للمكتب السياسي لحركة حماس، وهو في دورته الثانية في هذا الموقع. وبموجب النظام الأساسي للحركة، كان في العام الأخير له رئيساً للحركة، إذ أعيد انتخابه عام 2021، من دون أن يعني هذا أنّ هنيّة كان سيفقد أهميته السياسية بخروجه من الموقع. لكن الحركة في الماضي فقدت قادة عدّة، منهم المؤسّس أحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي، وآخرون كثر، وتجدّدت، وكان هنيّة، رئيس الوزراء السابق، جزءاً من التجديد. بل إنّ "حماس" عند إبعاد مئات من قادتها إلى مرج الزّهور، في جنوب لبنان، عام 1992، أعادت تنظيم نفسها، حتى قبل عودتهم. كذلك عاشت "حماس" منذ بداياتها قدرا من الفصل النسبي، المقصود والمعلن حيناً وغير المقصود أحياناً أخرى بين الجناحين، العسكري والسياسي، وبالتالي التداعيات التنظيمية على صعيد الحرب في غزّة لن تكون مباشرة، لكن التداعيات السياسية والتفاوضية موجودة.
من الزاوية الثانية، خسرت "حماس"، في الشهور الأخيرة، عدداً مؤثّراً في قمتها، بدءا من صالح العاروري (مسؤول الضفة الغربية)، إلى إسماعيل هنيّة، مروراً بقيادات سياسية، ومدنية، وعسكرية، في إطار الحرب في قطاع غزّة، وهذا يعني أنها تعيش ما يشبه الزلزال، أو الصدمة التي قد تمهد لتحولات كبيرة. لكن نتيجة الحرب في قطاع غزّة هي التي ستكون الفيصل.
الخروج من دوامة الحرب وطرح بدائل استراتيجية مقاومة، وإعادة ترتيب المشهد، لا يمكن أن تحدُث في ظل عدم وجود قيادة منفتحة على كل القوى الفلسطينية، تتحاور معها
لعل أهم دلالات الاغتيال بالنسبة للحرب مُضي القيادة السياسية الإسرائيلية في السعي إلى الحسم الميداني للحرب، ومثل هذا الاغتيال سيقوّي الاتجاه الإسرائيلي الرافض وقف إطلاق النار، ويجسّد مثلا تصريح وزير التراث الإسرائيلي، عميحاي إلياهو، الذي ينتمي إلى حزب عوتسما يهوديت الذي يتزعمه وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، الذي قال، عقب إعلان اغتيال هنيّة، إن "هذه هي الطريقة الصحيحة لتطهير العالم"، مضيفا "لا مزيد من اتفاقيات الاستسلام الوهمية، ولا مزيد من الرحمة لهؤلاء المحكوم عليهم بالموت". ولعل نتنياهو يرى في مثل هذه الاغتيالات طريقة للبقاء السياسي، واستعادة الشعبية. مثل هذا الاغتيال، في العقل الإسرائيلي، يعزّز رفض صفقات الاتفاق، وسيتبجّح نتنياهو إذا وصل إلى اتفاق أنه فرضه بالقوة. على أن منطق المقاومة نادراً ما يستسلم، وكثيراً ما تظهر ردّات فعل من قوى سياسية متجدّدة.
هذا الاغتيال، وطريقته، بحسب المعلومات الأولية، بمقذوف قصير، سيبدو ترميماً لصورة التكنولوجيا الإسرائيلية التي انهارت في 7 أكتوبر (2023)، وفي الحرب التي تلتها في قطاع غزّة، وسيعتقد نتنياهو أنّ هذا يعيده إلى الوضع الذي كان يدّعي فيه القدرات الأمنية الخارقة، والقادر على بيعها لآخرين. على أنّ رد المقاومة سيكون مُحدّداً أساسياً لنتيجة هذه العملية، وهذا ما يقود إلى موضوع "محور المقاومة"، وهو مصطلح يُطلق على إيران وحزب الله وأطراف حليفة لها في المنطقة. ويحتاج وضع هذا المحور، وأثر حرب غزّة الحالية عليه تحليلاً منفصلاً. وقد كانت علاقة حركة حماس التي تقود المواجهة العسكرية المقاومة في فلسطين بهذا المحور لا تخلو من الإشكالية، لا سيّما من حيث الاختلاف السياسي في ملفاتٍ، مثل الملفّ السوري. كانت هجمات السابع من أكتوبر انتصارا للجناح المؤيد للاعتماد على إيران داخل "حماس"، (هذا لا يعني أن هناك تحفّظاً عند باقي الحركة لتلقي الدعم من إيران، ولكن الاختلاف كان في الأولويات وبمدى التركيز على وجود حلفاء آخرين). ويأتي هذا الاغتيال ضربة لصورة هذا المحور، الذي يبدو أنّه لا يقدّم "حاضنة آمنة"، استخبارياً وأمنيّاً. من جهةٍ، قد تزيد إيران من دعمها المادي للمقاومة الفلسطينية، لتعويضها وتعزيز صورة طهران. ومن جهة ثانية، الاغتيال ضربة وهزّة أمام فكرة العلاقة الاستراتيجية بإيران تحديداً. خصوصاً مع الضربات المتتالية في لبنان (ومع أنباء اغتيال القيادي في حزب الله فؤاد شكر، وقبل ذلك آخرين). ورغم كل شيء، لا يبدو خيار الحرب المفتوحة قوياً، بقدر ما هو بقاء حرب الاستنزاف المتبادل، بين إسرائيل وحزب الله، مع استهداف أهداف في سورية وإيران.
منطقان في اغتيال هنيّة: إصرار إسرائيل بقيادة نتنياهو على منطق الحرب والتوتر. وانتظار ردّ المقاومة، الذي غالبا سيأتي
أخيراً، مع اغتيال هنيّة في طهران، والحرب في غزّة، يستمر سؤالان أساسيان، هما أشبه بالسؤال عن "الغائب الحاضر": الأول غياب القيادة الفلسطينية الموحدة، فالخروج من دوامة الحرب وطرح بدائل استراتيجية مقاومة، وإعادة ترتيب المشهد، لا يمكن أن تحدُث في ظل عدم وجود قيادة منفتحة على كل القوى الفلسطينية، تتحاور معها، وتوحّد الصفوف لتقديم موقف موحد. والسؤال الثاني، غياب الاستراتيجية العربية الحاسمة والواضحة لفرض وقف إطلاق نار، وعملية سياسية، توقف إسرائيل، وهو ما يستمر في خلخلة المنطقة، وجرها لتوترات مختلفة، يدفع الجميع ثمنها. والمقاومة الفلسطينية ستستمر وتتجدّد، طالما هناك احتلال، وطالما لا يوجد حلّ سياسي.
هناك منطقان في اغتيال هنيّة: إصرار إسرائيل بقيادة نتنياهو على منطق الحرب والتوتر. وانتظار ردّ المقاومة، الذي غالبا سيأتي. والغائب في هذا كله تصوّر فلسطيني وعربي رسميان واضحان لوقف الدوامة الراهنة. ما حدث خصوصاً من حيث مكان الحدث يقترب من درجة زلزال سياسي، على صعيد المنطقة. و"حماس"، وفي مثل هذه اللحظات، تصبح عمليات المراجعة الشاملة فيها ضرورية. لا شك أن الحركة ستفعل. ويبقى السؤال: هل تحدُث مراجعة فلسطينية شاملة؟ وعربية؟