حماس و"التحويلة السورية"
أثارت زيارة وفد من حركة حماس دمشق، ومشاركة القيادي البارز فيها، خليل الحيّة، مع ممثلي الفصائل الفلسطينية في لقاء الرئيس السوري بشار الأسد، ردود فعل متباينة في أوساط الشارع العربي، بخاصة الجمهور الإسلامي العريض، بين مبرّر ومدافع عن قرار الحركة واتجاه آخر غاضب ومنتقد.
من المهم، قبل الحكم على موقف الحركة، تحليله وقراءة الحيثيات السياسية والواقعية ومعرفة الأسباب التي دفعتها إلى الاتجاه نحو دمشق، بعد أن أصدرت بياناً سابقاً، في الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، أكّدت فيه على دور سورية في دعم المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس.
وإذا أردنا أن نفهم هذا الموقف، من الضروري العودة إلى المرحلة الأولى من الربيع العربي، وأن نتذكر أنّ المكتب السياسي لحركة حماس لم يغادر دمشق إلاّ بعد شهور من اندلاع الاحتجاجات السياسية هناك، وبعد أن استنفد جهوده ومحاولاته لإقناع دمشق بالحل السياسي. وكان رئيس المكتب السياسي للحركة، خالد مشعل، يحاول أن يقنع أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، بموقف شبيه، وفي النهاية لم ينجح في إقناع النظام السوري، ووقع تحت ضغط شديد من الجماهير العربية، بخاصة الشارع المؤيد لحركة حماس، وللتيارات الإسلامية عموماً، في ذروة الربيع العربي، بضرورة أن يكون هنالك موقف حاسم للحركة من سياسات النظام السوري تجاه الشعب والعنف الشديد الذي استخدمه في البداية ضد المتظاهرين.
كان من الصعب جداً على الحركة أن تبقى في دمشق، في ظل تلك الظروف الملتهبة في العالم العربي، ومع ذلك غادرت بصمت وبهدوء، ولم يتطوّر موقفها تجاه دعم المعارضة السورية إلاّ بعد حملة دعائية وسياسية من النظام، وبعد أن جرى زجّ أفراد من الحركة في السجون (بدعوى المشاركة في العمل المسلّح)، وتغولت الحركة في دعم الثورة السورية، في البداية، مع صعود الإخوان المسلمين في مصر، في عام رئاسة محمد مرسي، والموقف التركي الذي انقلب هو الآخر حينها على نظام الأسد، بعدما كانا حليفين رئيسين قبلها.
لم يعد هنالك خلاف في أوساط حركة حماس تجاه إصلاح العلاقات مع النظام السوري، حتى من المكتب السياسي في الخارج
صحيحٌ أنّ العلاقة بين الطرفين مرّت في مرحلة من البرود ووصلت إلى القطيعة والحملات الإعلامية المتبادلة، لكن ذلك لم يصل إلى مرحلة متقدّمة من العداء، بل بقي جناح داخل حركة حماس معارضا موقف المكتب السياسي (حينها)، ويرى أنّ الحركة أخطأت بخروجها من سورية. ومعروفٌ أنّ "حماس" انقسمت في هذا الموقف إلى اتجاهين رئيسين: الأول "حماس" لبنان وغزة، بخاصة الجناح العسكري، الذين رأوا أن "محور الممانعة" حليف استراتيجي لا يمكن التخلّي عنه، والثاني، "حماس" الخارج، التي انسجمت مع الموقف الشعبي العارم، ومع جماهير الحركة وموقف القوى الإسلامية الأخرى التي وقفت إلى جوار الشارع السوري.
كانت إيران وحزب الله عاملاً رئيساً في امتصاص الأزمات بين الطرفين (الأسد وحماس). ومع تغير موازين القوى داخل "حماس"، تعزّز الاتجاه الذي يدفع نحو استعادة العلاقة مع النظام السوري، في إطار التحالف ضمن ما يسمّى حلف الممانعة، بخاصة بعد الانتخابات الداخلية في الحركة في العام 2017. فما حدث (وفد حماس في دمشق) لم يكن انعطافة مفاجئة، أو تغييراً في مسار الحركة، بعد أن قرّرت تركيا إصلاح العلاقات مع سورية، كما يذهب محللون، أو في سياق موجة التطبيع العربية الراهنة مع النظام، أو بناءً على قراءة تقول إنّ هذا النظام انتصر، وموقف الحركة السابق كان بمثابة رهان خاسر على المعارضة السورية، وما قامت به "حماس"، بالتالي، حركة انتهازية بالقفز من جانب إلى آخر، فمثل هذا التحليل يتجاوز تفاصيل مهمة كثيرة، ويختزل موقف الحركة بصورة مخلّة!
أما اليوم فلم يعد هنالك خلاف في أوساط الحركة تجاه إصلاح العلاقات مع النظام السوري، حتى من المكتب السياسي في الخارج، فهنالك بالفعل إجماع ناجم عن الظروف الراهنة التي تحيط بالوضع الفلسطيني عموماً على أنّ مصلحة "حماس" ودورها في فلسطين مرتبط بإعادة العلاقات مع دمشق، ومع طهران بصورة كبيرة، بخاصة بعد التحوّلات الهائلة في المنطقة، والتي انتهت إلى انهيار كامل في أي مساندة أو دعم عربي، بل وبروز سياسات عربية جديدة تقوم على تهميش القضية الفلسطينية، نجم عن ذلك الاتفاقيات الإبراهيمية، والفراغ الاستراتيجي في المنطقة، ما يجعل الحالة الفلسطينية اليوم في أسوأ حالاتها الاستراتيجية.
من الضروري أن نقدّر الالتزامات على الحركة تجاه القضية الفلسطينية التي وضعتها في هذه المواقف الصعبة من الاختيارات السياسية والاستراتيجية
من زاوية أخرى، من الضروري في قراءة موقف الحركة أنّ ندرك أنّ عودة العلاقات مع النظام السوري لا تعني بالضرورة تأييد ما قام به تجاه الشعب من قتل وتهجير ومجازر، بل تفصل الحركة بين الملفين؛ فهي لم تؤيد ولم تقف إلى جواره في ذلك، كما فعلت منظمات وحركات أخرى. ولكن في المقابل يمثل النظام السوري في تموضعه وموقفه والخندق الذي ينتمي إليه حليفاً للحركة، في ضوء الموقف الواضح للعيان من النظم العربية الرسمية تجاه خط المقاومة.
كان موقفي، وما يزال، مع الشعب السوري وحقه في الديمقراطية والحياة الكريمة، ورفض القتل والظلم والاستبداد، ولكني لا أستطيع أن أُسقط هذا الموقف الفردي الشخصي على حسابات حركة سياسية في ظروف صعبة كذلك، وكما نطالب الحركة باحترام دماء السوريين وحقوقهم، فمن الضروري أن نقدّر الالتزامات على الحركة تجاه القضية الفلسطينية التي وضعتها في هذه المواقف الصعبة من الاختيارات السياسية والاستراتيجية.
لا تنفصل الملاحظة الأخرى على موقف الحركة عن التحولات الأيديولوجية والفكرية والسياسية التي مرّت بها خلال الأعوام الماضية، فلم تعد الحركة ذات الخطاب الأيديولوجي الصلب والواضح، إذ انخرطت في مرحلة "التسييس". ويمكن بوضوح إدراك ذلك من التعديلات التي جرت على وثيقتها السياسية، ومن الخطاب التكتيكي مع دول المنطقة، ومحاولة التركيز على ساحة الصراع الداخلية والوطنية الفلسطينية، فهي بالرغم من حجم الفجوة بينها وبين النظام المصري تتعاون معه وتنسّق. وبالرغم من الغزل الأخير بين النظام التركي والكيان الإسرائيلي ما تزال على علاقة وطيدة معه، وهكذا الحال بالنسبة لدول أخرى، بما في ذلك سورية وإيران. ويمكن ملاحظة ذلك أيضاً في موقف "حماس" أخيرا في عملية "وحدة الساحات" إذ وقفت على الحياد خلال الهجوم الإسرائيلي على غزّة ضد كوادر حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية!